دوافع للإيماني الإنجيلي

صراع أدّى إلى الاهتداء

أمير ريشاوي

أحد قادة الأحزاب الإسلامية المعاصرة

مقدمة

بعد أن انتهيتُ من كتابة هذه الأوراق، ألقيتُ برأسي بين راحتيَّ، ورحت أسأل نفسي: أكثر من سبع سنوات لا تشغلني إلا قضية واحدة، أصيغها طرفاً من الليل، وأبحث عن إجاباتها الليل كله! وها أنا قد انتهيت من حل رموزها، وعرفت الخيط الأبيض من الأسود فيها، ووقفت على الحق. لكن تُرى هل انتهت المعضلة التي طبعَت قسوتَها على قسمات حياتي وملامحها؟

الآن بدا لي أنها لم تنتهِ، بل بدأت! إن الذي انتهى هو المرحلة الصعبة، وها هي المرحلة الأصعب تبدأ!

إنني أحيا في مجتمع تسوده قِيمٌ وأفكارٌ ليس من بينها ما يصون حق التفكير وحريته!! وإن أباحه فهو يفترض النتائج مسبَّقاً، وما عليك إلا أن تدور لتصل في النهاية لتلك المسلَّمات!

رفعتُ رأسي أقلّب في صفحاتي، لتقفز إلى ذاكرتي قصة فنانٍ فقير قضى سنوات عمره في عمل تمثال. وبعد المجهود العظيم والتعب الشديد أتمَّ عمله واضطجع لينام. وفي منتصف الليل استيقظ فجأة على أثر إحساسه بصقيعٍ قارس باغتَ المدينة. وخوفاً على التمثال أخذ معطفه وما عنده من فراش ولفَّ بها التمثال. وبعد ذلك اضطجع بجواره ونام، ولكنها كانت النومة الأخيرة. وفي اليوم التالي اكتشف جيرانه أنه فارق الحياة، فناحوا عليه لما علموا أنه ضحّى بحياته لأجل فنّه!

وعدتُ أحدّث نفسي: إن الموت في سبيل الفن قد يكون جائزاً في أعراف الفنانين والذين يقدّرونه، بيد أن الموت في سبيل الحق لا ينكره إلا المبْطَلون!

لكن ما أن استقرّت عندي هذه الحقيقة حتى خطر لي هذا التساؤل: ولماذا الموت في سبيل الحق؟ وما الداعي إلى سيطرة هذا الشعور: أن الحياة في سبيل الحق، هي الأجدر لمن عرف الحق. إن المسلمين الذين يلّوحون بحدّ الردّة لكل من يساوره شك في معتقده، إنما تحركهم دوافع كثيرة، ليس من بينها على الإطلاق الخوف على الإسلام، لكنه الجهل والحقد والكراهية! إني أعرف مسلمين كثيرين ارتدّوا عن الإسلام فأصبحوا ملحدين، فما حرَّك إخوانهم المسلمون ساكناً!! لكني أعرف أضعافهم ارتدّوا ليكونوا مسيحيين، فقامت الدنيا ولم تقعد!! مع أن القرآن قد أخبر أن أسلافهم فرحوا لانتصار الروم على الفرس، لا لشيء إلا لأن الروم أهل كتاب، والفرس أهل إلحاد وزندقة!

إن حدّ الرِّدة هو القتل، وقد يكون عقاباً لمن دخل الإسلام من غير حظيرته، ثم ارتدَّ عنه. لكن الأمر يختلف، ليصبح حد الردّة أداةَ قهرٍ وإذلالٍ إذا مورس مع المسلمين أنفسهم متى ارتدوا عن الإسلام، لأنهم لم يختاروا الإسلام عند ولادتهم. وأعتقد أن هذا ما حدا بكاتبٍ مثل الدكتور محمد عمارة أن يؤكد أن الإسلام يضمن لأتباعه حق الارتداد عن دينهم! وذلك في كتابه الغزو الفكري وهمٌ أم حقيقة . فما دام بحث الشاك (والكلام للدكتور عمارة) قدر طاقته فلم يجد ضالته في الإسلام، فلا إكراه له على الإيمان به، فقاعدتا (لا إِكْرَاهَ فِي ا لدِّينِ) (البقرة 2: 256) (ولا يُكَلِّفُ ا للَّهُ نَفْساً إلا وُسْعَهَا) (البقرة 2: 286) ضمنت حق المسلم في الارتداد عن دينه. هذا فضلاً عن معاملته في الدنيا كمعاملة كاملي الإسلام. وأما حسابه الأخروي فموكول إلى الله. وإن كان بعض الفقهاء، انطلاقا من قاعدة لا يكلِّف الله نفساً إلا وسعها قال إنه عند الله من الناجين!

ومع ذلك فإنك لن تعدم من يصرخ في وجهك ضارباً بهذا عرض الحائط، غير معترفٍ إلا بالقتل لمن ارتد. فليكن إذاً.. فنحن لا نملك إلا صلاة من أجل أن يفتح الله قلبه وعقله للحق، الذي دّوَنْتُ حيثيات اقتناعي به في هذه الصفحات.. وها أنا أطلقها مشفوعة بصلاةٍ حارة حتى يصفح الله عمّا فيها من عيوب ويستر ما فيها من أخطاء، بحيث لا تكون عثرةً لأحد، ويجعل ما فيها من الحق سبب بركةٍ لكثيرين.

 

الفصل الأول: هل يمكن تطبيق الشريعة اليوم؟

لو أن شاباً توجّه إلى أحد المنادين بالتطبيق الفوري للشريعة الإسلامية وقال له: "أريد أن أنكح ابنتك فلانة" (يعني أن يتزوجها باللفظ المتعارف عليه اليوم) لاستشاط الرجل غضباً وطرد الشاب من منزله، ورماه بقلة الأدب. مع أن الشاب لم يخطئ بل استعمل اللفظة الشرعيّة الصحيحة!

وكما أن اللغة - أي لغة - كائن حيّ يتطّور بمرور الأيام، فكذلك كل جيل في كل زمان له ظروفه الاجتماعية والاقتصادية، وأعرافه وتقاليده. ومحاولة قسر جيل حديث على ظروف وتقاليد وأعراف أجيال سبقته محكوم عليها بالإخفاق والفشل.

لقد رُوي في الأثر: "لا تقسروا أولادكم على أخلاقكم، فقد خُلقوا لزمان غير زمانكم". فإذا كان الأمر كذلك خاصاً بالأولاد الذين لا يفصلهم عن آبائهم أكثر من ثلاثة عقود، فما بالكم إذا كانت تفصلها عن التي سبقتها قرون عديدة؟

هذه بديهيّة كنت في غِنى عن ذكرها لولا أن إخواننا المسلمين يتجاهلونها في غمرة حماسهم لمقولة التطبيق الفوري للشريعة، غير مدركين العواقب الوخيمة المترتبة على هذا التجاهل الذي يصادم سُنّة كونية وناموساً من نواميس المجتمع.

والغريب أن هذا التجاهل قد جاوز حدود العامة والدهماء إلى أهل الاختصاص في الفقه والشريعة، الذين أكاد أجزم أن الغالبية العظمى منهم لم يدرسوا بدقّة أبواب الحدود والديَّات التي جاءت في كتب الصحاح. ولو فعلوا لأيقنوا أن المسألة ليست بالبساطة التي يتصّورونها، وأن الأمر يحتاج إلى جهود مضنية، خاصة بعد غلق باب الاجتهاد، لجعل الحدود ملائمة للظروف الاجتماعية والاقتصادية التي يعيشها الناس الآن، وإلا كانت النتيجة سَقْطة مدوية ونكسة مريعة وإساءة بالغة، لا للشريعة الإسلامية فحسب، بل للإسلام كله عقيدةً وشريعة.

فإذا أردنا التدليل على ما سبق ذكرنا:

رُوي عن محمد قوله: ليس على العبد ولا على أهل الكتاب حدود (رواه الدارقطني في سُننه) ومعنى الحديث أنه إذا قتل مسلمٌ مسلماً عمداً، أُقيم عليه الحد أي القتل وإذا قتل مسيحيٌّ مسلماً عمداً فلا يُقام عليه الحد، أي لا يُقتل ولكن يُعّزَر. والتعزير عقوبة أقل من الحد!

وعن ابن عباس قال: قال محمد: ليس على العبد الآبِق إذا سرق قطع، ولا على الذمي (رواه الدارقطني في سُننه). ومعنى الحديث أن المسلم إذا سرق قُطعت يده، أما إذا سرق مسيحي فلا تُقطع يده! وليس الإشكال في تخفيف العقوبة على المسيحي، بل على عدم المساواة بين رعايا الدولة في جريمة واحدة، وما يُحدثه ذلك من أثرٍ في نفوس عامة المسلمين!

وعن أم المؤمنين عائشة قالت: "سمعت محمداً يقول: لا تُقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعداً . وعن عمر أن محمداً قطع يد سارق سرق برنساً من صُفة النساء ثمنه ثلاثة دراهم" (رواه أحمد وأبو دواد والنسائي). وعن جابر أن محمداً قال: "ليس على الخائن ولا على المختلس ولا على المنتهب قطع" (رواه الخمسة وصحّحه الترمذي). ومعناه أن من يخون الأمانة أو يختلس أو ينهب مئات الألوف من الجنيهات، لا تُقطع يده، ومن يسرق ما يساوي ثلاثة جنيهات تُقطع!!

وهذه الأحاديث المحمدية في النظام الاقتصادي والاجتماعي للدولة المنشودة يضع أمام الإسلاميين إشكالات عديدة بحاجة إلى بحوث ودراسات قبل أن تنطلق الأبواق قائلة: "الإسلام هو الحل، شرع الله عز وجل" . "الإسلام عقيدة وشريعة" . "مصحف وسيف" . "دين ودولة" وغير ذلك من الشعارات المستهلكة.

لقد كانت التجارة في عهد محمد عصب الحياة الاقتصادية، فكانت جريمة السرقة هي السائدة، فنزل بشأنها هذا العقاب الصارم المؤيِّد لما كانت عليه الحال قبل محمد. وأوردت كتب السيرة المعتمدة أن سارق كنز الكعبة المشرَّفة قطعت قريش يده . لكن الحال الآن تغيّر، واختلفت أوجه المعاملات المالية، واستجدَّت جرائم جديدة لم تكن معروفة في عهد محمد، مثل اختلاس الأموال العامة والنصب وإصدار شيكات بدون رصيد بمئات الألوف من الجنيهات. فإذا طبّقنا على مُرتكبيها حدّ قطع اليد خالفنا الأحاديث الصحيحة التي منعت القطع فيها. وإذا لم نفعل، كان مختلس مئات الألوف أسعد حالاً من سارق الجنيهات القليلة!

عن عبد الرحمن بن عوف قال، قال محمد: "لا يُغرَّم السارق إذا أقيم عليه الحدّ" (رواه الدارقطني في سُننه). فكيف الحال إذا سرق رجلٌ مئات الألوف من الجنيهات وقُطعت يده ورُكِّبت له يد صناعية وعاش مستمتعاً بما سرق طيلة حياته؟ بل إن تقدُّم الطب جعل من الميسور تركيب اليد المقطوعة بعد قطعها!

عن ابن مسعود قال: "دية الخطأ أخماساً! عشرون جذعة، وعشرون حقة، وعشرون بنات لبون، وعشرون بنو لبون ذكور، وعشرون بنات مخاض" (رواه الدارقطني في سننه). ونحن نسأل: هل سوف يُنصّ في القانون الجنائي الإسلامي على هذا بلفظه؟ وكم من القضاة الذين سيطبّقونه والمحامين الذين يترافعون فيه، يعرفون الفرق بين "الحقة" و"بنت المخاض" ؟ لقد كتب شيخ الإسلام الإمام الدارقطني أكثر من ثلاث صفحات ليحقق كلمتي "الحقاق" و"بني لبون" الواردة في العبارة السابقة، شعوراً منه بمسئولية من يغيّر في ألفاظ أحاديث الرسول!

فإذا ردّ إخواننا المسلمون بأنه لا بأس من استبدال هذه الألفاظ بمصطلحات مُتعارف عليها. قلنا: إن من المعلوم أن أحاديث الرسول (حسب ما يعتقد المسلمون) تُطبَّق تطبيقاً دقيقاً يلتزم اللفظ ولا يخرج عنه. ونحن نذكر في هذا المقام أن محمداً كان يعلّم أحد صحابته دعاءً يقوله قبل النوم هذا نصه:

"اللهمّ إني أسلمْتُ نفسي إليك، وألجأت ظهري إليك رغبة ورهبةً إليك، لا ملجأ ولا منجَى منك إلا إليك. آمنتُ بكتابك الذي أنزلت، ونبيّك الذي أرسلت".

ثم طلب محمد من صاحبه أن يعيد عليه القول فأسمعه إياه ولكن قال: "وبرسولك الذي أرسلت" بدلاً من نبيّك الذي أرسلت . فصحّحه له محمد بقوله ونبيّك الذي أرسلت .

إذاً فتغيير الألفاظ ليس سهلاً في المعتقد الإسلامي. وهذا بلا شك مشكل خطير يُظهره ما رُوي عن محمد: لا قود إلا بالسيف أي: لا يجب قصاص القتل، إلا إذا كانت جريمة القتل تمَّت بالسيف . وهنا وضع محمدٌ قاعدةً شرعية هي أن القتل بالسيف وحده هو الذي فيه القود (أي القصاص). أما وسائل القتل الأخرى فلا قصاص فيها!

ومعلوم أنه في عصرنا الحديث استُحدثت عشرات الوسائل للقتل. فإذا طبقنا فيهاحديث لا قود كان ذلك خروجاً على الحديث. وإذا قلنا بغير القود، كان ذلك في غاية الغرابة، لأن من بين تلك الوسائل ما هو أقسى وأشد إجراماًمن السيف. فكيف لا يُعاقب مرتكبها بالقود أي القصاص ؟! هذا فضلاً على أنه أصبح القتل بالسيف الآن يكاد يكون في حكم النادر، وبذلك نضع في قانون العقوبات نصاً لا يُطبَّق في واقع الحياة!

جاء في مُسند الإمام أحمد أن الصحابي سعد بن عبادة قال: يا رسول الله، إنْ وجدتُ مع امرأتي رجلاً، هل أنتظر حتى آتي بأربعة شهود؟ قال: نعم . وفي هذا الحديث أثار الصحابي صعوبة إثبات جريمة الزنا بإحضار أربعة شهود يرون المرود يدخل في المكحلة . وهي صعوبة ما زالت قائمة حتى اليوم، بل ازدادت وتحّولت إلى استحالة. فإذا استطاع من يهمُّه الأمر أن يثبت حدوث تلك الجريمة بطرق الإثبات الحديثة، مثل التصوير الفوتوغرافي أو التسجيل بالفيديو التي تؤكد لمن يراه أن الزنا تم، فهل يُقبل منه هذا الدليل؟

إذا أجزنا ذلك، خالفنا السنّة الصحيحة، وأفلت الزانيان رغم قوة الدليل. أم لا بد من الدليل الشرعي: أربعة شهود؟ وهذا إن لم يكن مستحيلاً فهو شبه مستحيل في أيامنا، إذ أن جريمة الزنا تتم في غُرف مُحكمة الغلق؟!

هذا قليل من المشكلات التي تواجه المطالبين بتطبيق الشريعة الإسلامية وإقامة الحدود في القرن العشرين!

إن علامات الاستفهام التي أطرحها هنا قائمة منذ عشرات السنين، ولم يتصدَّ لها فقيهٌ واحد. ولم نقرأ لواحدٍ من الدُّعاة تصوُّره لشريعة الإسلام بثوبٍ جديد يليق بمعطيات العقل البشري في القرن العشرين. بل كل ما قدمه علماء الأزهر في باب الفقه ما جسَّده مفتي مصر عندما قدم فتواه بمفطرات رمضان، من مثل الطين الأرمني وبزاق الصديق الخ!! ولم يعلم أن هناك أشياء أخرى أصبحت مستخدمة غير الطين الأرمني في المأكل والمشرب!!

لقد أطلق الإمام الإيراني الخميني على علماء الأزهر بمصر أنهم علماء الحَيْض والنّفاث . وقال عنهم: إنهم فقهاء المراحيض. وهو مُحقّ إلى حد بعيد فيما ذهب إليه، لأن الدعاة المنتشرين في بقاع الأرض، والذين ينادون بتطبيق الشريعة، لديهم تضخّمٌ في فقه دورات المياه، وجفافٌ في معطيات العلم بما قدمته الشريعة. وأعتقد أن مقابلة هذا بذاك ضرورة عقلية لا مناص منها قبل أن يطلقوا شعاراتهم المستهلكة!!

 

الفصل الثاني: وهل طُبِّقت الشريعة من قبل؟

قال الإسلاميون عن الشريعة الإسلامية إنها مشروع الإنقاذ الوحيد القادر على إنقاذ البشرية من الحيرة. والقلق والاضطراب والشرور، وزعموا أنها أصبحت حاجةً بشرية ملحة فرضتها عدم صلاحية النموذج الغربي والشرقي للحكم، بعد أن افتقدا عناصر البقاء. وقالوا أيضاً إن "شريعة الإسلام هي الحل الوحيد لأنها فوق الهوى البشري والنقص الإنساني، ولا تخضع لمقاييس الخطأ والصواب. فهي فوق التجربة. وهي قبل ذلك وبعده قوانين إلهية"!

هذا ما قاله سيد قطب في كتبه: "هذا الدين" - "المستقبل لهذا الدين" - "معالم في الطريق" - "السلام العالمي والإسلام" - "نحو مجتمع إسلامي" - "في ظلال القرآن" .

وإن سلّمنا مؤقَّتاً بما قالوه عن شريعة الإسلام، وإنها قادرة على حل معضلات الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية (نظرياً)، فلا يمكننا التسليم ولو المؤقت بأنها طُبِّقت عملياً في أي مرحلة من مراحل التاريخ، ولا أنها أتت بأفضل الثمرات! فإن الدارس لتاريخ مصر - على سبيل المثال - يجد نفياً قاطعاً للقولة السابقة، فنحن لا نستطيع الحكم بأن الشرع الإسلامي في مصر قد أنصف الأقباط لأن عمر بن الخطاب أمر بجلد ابن عمرو بن العاص حاكم مصر عندما ظلم قبطياً، أو لأن عمر بن عبد العزيز أمر بإعطاء الذمّيين من أموال الزكاة!!

إن مواقف الآحاد لا ينبغي أن تُسحب على وقائع التاريخ الإسلامي لمصر فيوصف بالعدل والمساواة، فهذا مجافٍ للروح العملية التي ينبغي أن توصف بها الأبحاث والدراسات التي تتناول مباحث التاريخ!

فإذا قسنا مباحث الإسلاميين عن معطيات الشرع الإسلامي تاريخياً على ضوء عبارة الأستاذ العقاد القائلة: كل قولٍ لا يستند إلى البحث، ولا يستند البحث فيه إلى الدليل، فهو حديثٌ من أحاديث الإشاعات، إن لم نقُلْ أحاديث الخرافات. فإن الحديث عن تاريخ الشرع الإسلامي وتطبيقاته لم يزد عن كونه حديث خرافة .

ولكي نبرهن على صدق ما ذهبنا إليه، لنُلْقِ نظرة عاجلة على تاريخ مصر الإسلامية، ليتأكد قولنا إن الشريعة الإسلامية وإن كانت مقبولة نظرياً فإنها غير قابلة للتطبيق عملياً.

أولاً - سياسياً واقتصادياً

اتَّسم تاريخ الحكم المصري الإسلامي بسِمَتين هما:

أ - غياب العدالة الاجتماعية.

ب - الحكم الديكتاتوري، مقطوعُ الصلةِ بمبدأ الشورى الإسلامي!

فالبرغم من تأكيد الشريعة في نصوصها على مبدأ توزيع الثروة "حَتيْ لاَ يَكُونَ (المال) دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمُ" (الحشر 59: 7). إلا أن نظام الحكم الإسلامي في صعُب عليه تنفيذ هذا النص، فجاءت الأحكام مؤكدة بأن مثل هذه النصوص جاءت للحفظ لا للتطبيق!

يروي محمد بن إياس الحنفي في المختار من بدائع الزهور في وقائع الدهور : لما تُوفي أحمد بن طولون خلّف من الذهب عشرة آلاف دينار، ومن المماليك سبعة آلاف مملوك، ومن العبيد السود أربعة وعشرين ألف عبد، ومن الخيول سبعة آلاف فرس، ومن البغال والحمير ستة آلاف رأس. ومن الجمال عشرة آلاف جمل، ومن اللؤلؤ والجواهر واليواقيت مائة صندوق، ومن التحف ما لا يُحصى عدده. وهذا غير الضِّياع والأملاك والبساتين. أما ابنه خمارويه فقد كان مثلاً فريداً في البذخ والإسراف، فلقد زوّج ابنته قطر الندى للخليفة المعتضد، وجهزها بجهاز أسطوري، قلَّ أن تجد له في التاريخ نظيراً، حتى قيل إنه لم يُبق تحفةً من كل لون إلا جمَّلها بها. وبلغت نفقات الجهاز مليون دينار. ولم يكتفِ بذلك بل أعطاها مائة ألف دينار لتشتري بها من العراق ما قد تحتاج إليه مما يتعذَّر وجوده في مصر. وبنى لها بين مصر وبغداد قصراً على رأس كل مرحلة تنزل بها، أمدَّه بكل وسائل الراحة والرفاهية كأنها في قصر أبيها. ومن الطبيعي أن يظهر لهذا السُّفْهُ أثرَهُ على بيت المال !

وتؤكد الدكتورة سيدة إسماعيل الكاشف في كتابها مصر في عهد الإخشيديين : "خلَّف كافور في خزانته بعد وفاته ما قيمته نحو مليون دينار من الجواهر والثياب والسلاح والأمتعة".

أما الفاطميون فقد رُويت عنهم رويات ليبلغ مبلغها الأساطير في العبث بالأموال العامة. وكُتُب التاريخ القديمة والحديثة زاخرة بوصف قصورهم ومواكبهم، وحيازتهم للثروات الطائلة وحرمان الشعب منها.

فقد كتب د. حسن إبراهيم حسن في بحثه "تاريخ الدولة الفاطمية": "كان للمعزّ أختٌ تسمى سيدة الملك قيل إنها تُوفّيت في خلافة أخيها المعزّ فوُجد عندها من الذهب ثلاثمائة صندوق، ومن فصوص الياقوت الملوّن واللؤلؤ خمس وبيات ووجد لها مدهن من الياقوت الأحمر وزنه سبعة وعشرون مثقالاً".

هذا مع ما كان يعانيه سواد الشعب المصري من المجاعات الرهيبة والطواعين والقحط واختفاء المواد الغذائية. ويكفي أن نشير إلى المجاعة التي حدثت في عهد الخليفة المنتصر بالله الفاطمي الذي ظل جاثماً على صدر البلاد أكثر من ستين عاماً، حدثت فيها من البلايا والمصائب والفظائع ما تشيب له الولدان. ويكفي أن نعرف أن الناس اضطرت إلى أكل الكلاب والقطط ثم إلى أكل جثث من يموت من البشر. واصطلح المؤرخون على تسمية هذه الفترة بالشدّة العظمى .

وقد فصَّل صاحب كتاب المختار من بدائع الزهور في وقائع الدهور أحداث هذه المجاعة، ننقل منها ما يلي: كان طائفة من الناس يجلسون على السقائف ومعهم حِبال تنتهي بكلاليب. فإذا مرَّ بهم أحدٌ من الناس ألقوا عليه تلك الحبال ونشلوه بتلك الكلاليب في أسرع وقت. فإذا صار عندهم ذبحوه في الحال وأكلوه بعظامه! وكان بمدينة الفسطاط حارة تسمى (حارة الطبق) فيها نحو عشرين داراً، كل دار تساوي في الثمن ألف دينار. فبيعت بيوت هذه الحارة كلها بطبق من الخبز، كل دار برغيف، فسُمِّيت يومئذ حارة الطبق .

وبالطبع فإن ما عاناه المصريون من جراء هذه المجاعة كان يمكن أن يكون أقل لولا عبث الحكام المسلمين بأموال البلاد، والإسراف الذي ليس له مثيل الذي مارسه أسلاف المستنصر بالله دون وازعٍ من ضمير. ومن المضحك المبكي أن من جاء بعده من الخلفاء لم يتعظ من "الشدة العظمى" وما حدث فيها من بلاء، فإذا بالخليفة الظافر بالله بعد أن تولى الخلافة (بالتعيين لا بالبيعة) انكبَّ على اللهو والطرب وشرب الخمور. والأنكد من ذلك والأدهى أنه كان يهوى ابن وزيره عباس وينزل إليه ويبيت عنده في غالب الأوقات. ثم أهداه صينية من ذهب فيها ألف حبة لؤلؤ. ولو كان لحكم الشريعة الإسلامية سلطة وقدرة على الحكم (كما يدَّعي الإسلاميون) لكان جزاء الظافر بالله هو الحرق بالنار! فلقد أورد ابن القيم الجوزية في كتابه السياسة الشرعية أن أبا بكر أحرق اللواطية وأذاقهم حرّ النار في الدنيا قبل الآخرة!! ويؤكد د. سعيد عبد الفتاح عاشور في كتابه المجتمع المصري في عهد المماليك : "ظل اللواط منتشراً في سلاطين المماليك وأمرائهم". حتى إن الذي كان يولع بالجواري ويكتفي بهن يُعتبَر شاذاً مثل السلطانحسن الذي قيل عنه: "لم يكن له مَيْل للصبيان كعادة الملوك من قبله"!

وما قيل عن غياب العدالة الاجتماعية، يقال أكثر منه عن غياب الديمقراطية في نظام الحكم الإسلامي في مصر، فلقد كان كل ملك يورِّث حكم مصر المحروسة للذي يليه كما يورِّثه قصوره وأملاكه. وليس لعلمائها ولا لفقائها ولا لذوي الرأي ولا للعامة أي وزن وكما قال الشاعر: "ولا يُستأذنون وهم شهود".

ثانياً - اجتماعياً

أوردت الدكتورة سيدة إسماعيل الكاشف وصفاً دقيقاً للحالة الاجتماعية في المجتمع المصري في عصر الإخشيديين. قالت: "ولم تجد العامة ملاذاً إلا في الاعتقاد بالخرافات وكرامات الأولياء. وظهر دجالون أشاع بعضهم عن نفسه أنه رأى النبي وجبريل وعلي بن أبي طالب. وآخر رأى عبد الرحمن بن ملجم قاتل علي وهو يستغيث مما ينزل عليه من العذاب، فافتتن بهم الناس. ولقد أغرقوا العامة في شرب الخمور والطرب في المجالس العامة والخاصة، ولم يكن ذلك وقفاً على الشباب بل كان الشيوخ لا يتورّعونه. حتى أهل الورع من الفقهاء ولم يتحرّج العلماء من سماع المغنّين والمغنيات، وانتشرتالمواخير ودور القمار واللواط".

ولم يكن الانحلال الخلقي والفساد الاجتماعي وقفاً على سلاطين وملوك الدولة الإخشيدية، فإن التركيب الطَّبقي في عهد الدولة الفاطمية لم يتغير، واستمرت الأمراض الاجتماعية كما هي، بل لم يتورع الفاطميون عن فرض الرسوم على بيوت الدعارة. ويرى المؤرخون أنه في غروب الدولة الفاطمية تولى الأمر خلفاءٌ ضعاف، وأصبح الزمام بيد الوزراء، وحدثت مذابح وفِتن عديدة وحوادث شنيعة كان آخرها حريق مدينة الفسطاط في عهد آخر الخلفاء الفاطميين العاضد بالله بمشورة خَرْقاء من وزيره. واستمر الحريق واحداً وخمسين يوماً، حتى صار الدخان يُرى من مسيرة ثلاثة أيام، كما ذكر ذلك المؤرخ الشهير ابن عبد الحكم .

أما الدولة الأيوبية (إذا استثنينا فترة حكم الناصر صلاح الدين) فإن الحياة الاجتماعية في مصر على عهدهم كانت سيئة، فقد كان الشعب يعاني من الضرائب التي كان صلاح الدين قد أبطلها، فإذا بابنه العزيز بالله قد أعادها وزاد في شناعتها. وانتشرت الخمور، بل حُملت أوانيها جهاراً من غير إنكار. وكانت الدولة تحمي بيوت الدعارة وأماكن الحشيش، وفُرضت عليها الضرائب الثقيلة، ولم يقدر أحد على معارضة أماكن الفسوق، وصارت طاحون الحشيش عمالة وعملاً يُكتسب منه، واضطربت الأحوال لقِلَّة العدل وكثرة المعاصي والفسوق (من كتاب بدائع الزهور).

ومن أهم مظاهر الانحلال الخلقي في عصر الدولة الأيوبية تفشّي الرشوة بين الحكام والمحكومين، حتى أن المقريزي يذكر أن أصل الفساد في عصره هو تحكّم الرشوة في ولاية الخطط السلطانية والمناصب الدينية، كالوزارة والقضاء وولاية الأقاليم وولاية الحسبة وسائر الأعمال، بحيث لا يمكن التوصُّل إلى شيء منها إلا بالمال الجزيل !!

هذا هو المجتمع المصري الذي حكمته شريعة الإسلام على مدى قرون طويلة، فهل كان لأمراضه دواء؟ وهل أنقذت الشريعة الشعب المسكين من مظالم حكمه؟ لقد كانت سوطاً وسيفاً في أيديهم يضربون به عنق الخارج عليهم بوصفه خارجاً على الطاعة المفروضة عليهم باسم الشريعة!

لو تتبعنا التاريخ الفعلي لتطبيق الشريعة، باحثين عن مجتمع الحرية والأُخوَّة والمساواة، لظللنا نتراجع ونتراجع دون أن نهتدي إليه، إلى أن نتوقف عند عصر محمد، وإن أكدت بعض الدراسات الإسلامية أنه لم يُخْلُ من الأطماع والشهوات التي تقدح في نزاهة هذا المجتمع.

 

الفصل الثالث: مأزقٌ مِن معادلةٍ صعبة

لعبت كتابات المفكرين الإسلاميين أبي الأعلى المودودي وسيد قطب دوراً خطيراً في تأصيل فكرة الحاكمية التي جعلتها الصحوة الإسلامية شعاراً لها. وأصبحت الجماعات الإسلامية منذ ذلك الحين لا ترى في دولتها المنشودة إلا أن الحكم لله وحده!

ففي أكثر من ستة عشر مؤلفاً، عدا تفسيره في ظلال القرآن حاول سيد قطب أن يروّج لنظرية الحاكمية . وقد نجح إلى حدٍّ بعيد في توضيحها ورسم خطوطها العريضة والتي ترى أن العبودية لله هي الركن الأول في العقيدة الإسلامية المتمثل في شهادة أن لا إله إلا الله . والتلقّي عن رسول الله في كيفية هذه العبودية هو شطرها الثاني المتمثِّل في شهادة أن محمداً رسول الله.

وبناء على ذلك فقد ميّز سيد قطب بين نوعين من المجتمعات: الأول إسلامي والثاني جاهلي . وسِمة المجتمع الإسلامي الأولى أنه يقوم على قاعدة العبودية لله وحده في أمره كله، كما تمثلها وتكيّفها شهادة لا إله إلا الله . وتتمثل هذه العبودية في:

- التصوّر الاعتقادي

- الشعائر التعبدية

- الشرائع والقوانين

ثم ترتب على ذلك نتيجة أخرى هي أنه ليس عبداً لله من لا يعتقد بوحدانية الله. وليس عبداً لله وحده من يتقدم بالشعائر التعبدية لأحدٍ غير الله. ثم - وهذه هي الخطيرة - ليس عبداً لله وحده من يتلقّى الشرائع القانونية من أحد سوى الله .

أما المجتمع الجاهلي فهو كل مجتمعٍ غير المجتمع الإسلامي . وإذا أردنا التحديد هو كل مجتمع لا تَخْلص عبوديته لله وحده ممَثَّلة في التصّور الاعتقادي، وفي الشعائر التعبّدية، وفي الشرائع القانونية. ثم ينتهي سيد قطب إلى أنه بهذا التعريف الموضوعي تدخل في إطار المجتمع الجاهلي جميع المجتمعات القائمة اليوم في الأرض فعلاً! بما فيها المجتمعات التي تزعم أنها مسلمة . ولكنها لا تدخل في هذا الإطار، لا لأنها تعتقد بألوهية أحدٍ غير الله، ولا لأنها تقدم شعائرها التعبدية لغير الله، ولكن لأنها لا تدين بالعبودية لله وحده في نظام حياتها. فهي وإن لم تعتقد بألوهية أحد غير الله، تعطي أخصّ خصائص الألوهية لغير الله، فتدين بحاكمية غير الله (من كتاب معالم في الطريق لسيد قطب).

وفي موضع آخر يوضح سيد قطب هذه النقطة فيقول في كتابه "هذا الدين": ونحن مطالبون بتحقيق المنهج الإلهي حتى نحقق لأنفسنا صفة الإسلام، فركن الإسلام الأول شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله معناها القريب إفراد الله سبحانه بالألوهية، وعدم إشراك أحد من خلقه معه في خاصية واحدة من خصائص هذه الألوهية. وأولى هذه الخصائص هي حق الحاكمية المطلقة، الذي ينشأ عنه حق التشريع للعباد. فشهادة أن لا إله إلا الله لا تقوم ولا تتحقّق إلا بالاعتراف بأن لله وحده حق وضع المنهج الذي تجري عليه الحياة البشرية. وكل من ادَّعى لنفسه حق وضع منهجٍ لحياة جماعة من الناس فقد ادعى لنفسه الألوهية، لأنه يدَّعي لنفسه أكبر خصائص الألوهية، وهو التشريع !!

هذه هي نظرية الحاكمية التي عاشها وقُتل من أجلها سيد قطب. وقد ترتب عليها ما يلي:

المجتمع القائم اليوم مجتمع جاهلي.

المجتمع الإسلامي اختفى من الساحة منذ قرون.

ليس للمسلمين الخيار في تطبيق الشريعة أو رفضها، لأنها قانون إلهي مُنزَل.

حتمية قيام جماعة إسلامية تحمل عبء عودة المجتمع إلى إسلاميته الضائعة.

مفترق الطرق:

ولقد أدرك بالفعل أبناء العالم الإسلامي أهمية عودة الدولة الإسلامية التي أصبح وجودها فريضة شرعية . فأصبح العمل لهذه العودة هدف الإسلاميين جميعاً. غير أن وحدة الصف الإسلامي لم تدم طويلاً، وسرعان ما أصابه التفتُّت والتشرذم عندما انتقلوا إلى الخطوة الثانية وهي: ما السبيل إلى عودة المجتمع الإسلامي المنشود؟ فغدا الإسلام الواحد ألف إسلام، وأصبحت الجماعة أحزاباً وجماعات. منهم من يرى أن الجهاد والقتال والوقوف بالساعد والسلاح أمام القوى الجاهلية هو الطريق الوحيد لعودة الشريعة. ومنهم من يؤكد على فعالية القنوات الشرعية التي تتيحها الدولة في إقامة مجتمعهم الإسلامي. وآخرون يرون أن السبيل هو الانسحاب من الساحة السياسية والعمل على عودة المسلمين إلى ساحة المساجد وتربيتهم على الخلق الإسلامي القويم. ومنهم من هجر إلى بطون الصحراء والجبال مكفِّراً المجتمع حكاماً ومحكومين. ولكن بالرغم من هذا الاختلاف الواضح في وسائل الفصائل الإسلامية للوصول لكيفية تطبيق الشريعة، إلا أن هناك خطاً عريضاً اتفقت عليه، هو وجوب تطبيق أبناء الحركة الإسلامية الإسلام في أنفسهم وحياتهم الشخصية حتى يتمكنوا من إقامة مجتمعهم الإسلامي، وأصبحنا لا نكاد نرى مقالاً أو كتاباً يتناول الحركة الإسلامية إلا ويشير إلى عبارة مؤسس جماعة الإخوان المسلمين حسن الهضيبي: أقيموا دولة الإسلام في أنفسكم تُقَمْ على أرضكم. إن ميدانكم الأول أنفسكم، فإن انتصرتم عليها كنتم على غيرها أقدر، وإذا أخفقتم في جهادها كنتم على غيرها أعجز . وقال سيد قطب: لن يقام المجتمع الإسلامي إلا إذا حملته جماعة من البشر تؤمن به إيماناً كاملاً وتستقيم عليه وتجتهد لتحقيقه في قلوب الناس، وتجاهد لهذه الغاية بكل ما تملك .

ولكن هذا المبدأ الوحيد، الذي أجمعت عليه الفصائل الإسلامية على تعدُّدها وتنّوُعها في وسائلها، يُعدّ مخالفة صريحة للإسلام كما يفهمونه. فالإسلام كما قدّموه دين شامل متكامل، وهم لا يعنون بشموليته أنه دينٌ جمع بين العقيدة والشريعة فحسب، أو أنه جمع بين الجسد والروح، أو أنه شمل الدنيا والآخرة. بل الشمول والتكامل في المنهج الإسلامي تكاملٌ يجعل من الصعوبة أن تُطبّق جزئية واحدة منه دون باقي جزئياته، ثم تعطي نتيجة يرتضيها الناس من منهجٍ إلهي. فمثلاً لايمكن أن نطبق عقيدة الإسلام بدون شريعته، أو نطبق شريعته دون عقيدته. ففي الحالتين يُفقد الشمول والتكامل الذي يؤدي بدوره إلى فقدان الإسلام عقيدة ومنهاجاً، لأن الشريعة الإسلامية منبثقة من العقيدة، بل هي جزء منه (سيد قطب المستقبل لهذا الدين).

بل أن التكامل والشمول في المنهج الإسلامي يمتد ليشمل التكامل بين الشريعة والبيئة التي ستُطبَّق فيها. وهو تكامل حتمي، والفصل بينهما يؤدي إلى القضاء عليهما تلقائياً. فإن طبَّقنا الشريعة في بيئة يسودها جّوٌ جاهلي لفظتها جماهير الناس. وإن طبقنا قانوناً جاهلياً في بيئة إسلامية لفظ الجماهير أحدهما. فالتكامل بين البيئة والشريعة حتمي وضروري.

وبموجب هذا الفهم لشمولية الإسلام وتكامله، يعتقد قادة الحركات الإسلامية أن تطبيق الإسلام في حياة أبنائها وهم يعيشون في بيئة غير إسلامية دعوة تخالف جوهر الإسلام، كما أنها مستحيلة التطبيق.

فالمجتمع الإسلامي (بحسب سيد قطب) لا يقوم حتى تنشأ جماعةٌ من الناس تقرر أن عبوديتها الكاملة هي للَّه وحده، وأنها لا تدين بالعبودية لغير الله، ثم تأخذ بالفعل في تنظيم حياتها كلها على أساس هذه العبودية الخالصة، تنقي ضمائرها من الاعتقاد في ألوهية أحد غير الله، وتنقّي شرائعها من التلقي عن أحد غير الله!!

ويقول سيد قطب: "لا بد أن تتمثل القاعدة النظرية للإسلام في مجتمع عضوي حركي منذ اللحظة الأولى، منفصل ومستقل عن التجمّع الجاهلي، الذي يستهدف الإسلام إلغاءه. عندئذ فقط تكون هذه الجماعة مسلمة، خلصت ضمائرها من العبودية لغير الله اعتقاداً وعبادة وشريعة، وهي التي ينشأ منها وبها المجتمع الإسلامي (عن كتاب معالم في الطريق).

فلكي تعود دولة الإسلام لا بد من قيام جماعة تربّي نفسها على منهجه وأخلاقه وتعيش به وتدعو إليه - أي يتمثل الإسلام في تجمع عضوي حركي بتعبير سيد قطب.

إلا أنه يعود فيؤكد في كتابه هذا الدين أن تطبيق هذا التجمع للمنهج الإسلامي مستحيل في ظل الهيمنة الجاهلية على المجتمع، فيقول في كتابه هذا الدين : الذين يظنون أن أخلاقية الإسلام تجعل منه عبئاً ثقيلاً على البشرية إنما يستمدّون هذا الشعور مما يعانيه الفرد المسلم حين يعيش في مجتمع لا يهيمن عليه الإسلام. وحين يكون الأمر كذلك يكون الإسلام بأخلاقياته عبئاً فادحاً بالفعل يقصم ظهور الأفراد الذين يعيشون بإسلامهم النظيف في مجتمع جاهلي يكاد يسحقهم سحقاً. إن الإسلام نظام واقعي، يفترض أن الناس الذين يعيشون بمنهجه يعيشون في مجتمع يهيمن عليه الإسلام.

فلا بد إذاً من وسط خاص يعيش فيه هذا التصّور بكل قِيَمه الخاصة، غير الوسط الجاهلي، ولابد له من بيئة غير البيئة الجاهلية! ومن هنا ينبغي أن يعلم من يريد أن يكون مسلماً أنه لا يستطيع أن يزاول إسلامه إلا في وسطٍ مسلم يهيمن عليه الإسلام، وإلا فهو واهم إذا ظن أنه يملك أن يحقق إسلامه وهو فردٌ ضائع مطارَد في المجتمعات الجاهلية .

وكاتب آخر من كبار أساتذة كبرى الحركات الإسلامية المعاصرة هو الشيخ محمد الغزالي. وقد وقع في كتابه فقه الحركة فريسة نفس التناقض، فقد أكد مراراً أن المجتمع الإسلامي لا يخرج إلا من القاعدة الإسلامية التي تربَّت على خُلُق الإسلام ومبادئه، ولا بد من وجود مسلمين حقيقيين قبل ظهور المجتمع الإسلامي. ثم نراه ينفي إمكانية ذلك في مؤلَّفين: أحدهما معركة مصحف فيقول: تتَّجه أوامر الله ونواهيه إلى البيئة التي يعيش فيها الإنسان، كما تتجه إلى الإنسان نفسه. تتجه إلى البيئة لتشكّلها على صورة معيّنة، وتفرغها في قالب محدد. كما تتجه إلى الإنسان بالمحو والإثبات فيما يفعل ويترك. والحكمة من ذلك واضحة، فإن العين القوية لا تستطيع الرؤية في الجو المظلم، فلا بد من وَسَطٍ يعين على الإبصار حتى تستطيع استبانة ما تريد . ويقول في بحثه نظرات في القرآن : "إن أثر البيئة في السلوك الإنساني غير منكور، بل الرأي الراجح أنها أقوى من الوراثة في تكوين الخلق وفي توجيه المرء إلى مستقبله. وأي نظام ينشد للفرد وجهة خاصة لا يمكن البتة أن يتجاهل ضغط البيئة على الفرد، ووحيها الخفي والجلي الذي يسيّره كيف يشاء. السيطرة على البيئة إذاً ضرورة لا بد منها لكل رسالة جادة، ولذلك كان الإسلام ديناً يشرّع للنفس والمجتمع والدولة على حدّ سواء".

إذاً لا سبيل للوصول إلى هذا المجتمع المنشود! ولكن هل أدرك شباب الصحوة الإسلامية أبعاد التناقض في هذه المعادلة الصعبة؟

الحركة الإسلامية تطالبه بأن يترفّع بنفسه عن أدناس الواقع، والبيئة تفرض عليه واقعاً لا يستطيع الفرار منه! ويصبح أمام أبناء الحركة الإسلامية أن يختاروا بين ثلاثة بدائل:

إما أن يثوروا على هذا الواقع وهذه البيئة لتصبح متفقة مع المنهج المطلوب تطبيقه.

وإما أن ينعزلوا خارج المجتمع ويتقوقعوا في أحد الكهوف أو بطون الصحراء والجبال، ليتمكنوا من ممارسة إسلامهم بعيداً عن ضغط الواقع الجاهلي.

وإما أن يستسلموا ويتخلّوا عن الإسلام كلية.

وهذه بدائل بالرغم من أنها مورست من بعض أبناء الحركة الإسلامية إلا أنها لم ولن تؤدّي إلى نتيجة أو توصّل إلى هدفٍ إيجابي. واختيار أحدها له أضراره وآثاره السلبية على الفرد والمجتمع، والتي قد تصل في النهاية إلى تدمير الفرد والمجتمع على حدٍ سواء.

 

 

الفصل الرابع: البيئة وفِقه الأقلية

ينبغي عند دراسة تاريخ الدولة الإسلامية التي أقامها محمد في المدينة بعد الهجرة، أن نميّز بين مرحلتين مرَّت بهما الدعوة الإسلامية لقيام مجتمعٍ قائمٍ على تعاليم الإسلام هما: المرحلة المكية، والتي استمرت ثلاثة عشر عاماً، والمرحلة المدنيّة والتي بدأت عقب الهجرة إليها وحتى وفاة محمد.

عندما أراد محمد أن يُقيم دولته الإسلامية وأن يُطبّق شريعته التي أعلن أنها مُنزَلةٌ عليه من السماء - وكان حينئذ في مكة، حيث الأقلية الإسلامية وسط الأغلبية الجاهلية - وضع في اعتباره أمرين:

إنه في بيئة غير مواتية، ولا تصلح لتطبيق قوانين شريعته.

إنه لا يمتلك السلطة في هذا المجتمع المكي، والتي تؤهّله لتغيير المجتمع بالقوة، وفرض شريعته أو تطبيقها تطبيقاً فورياً.

وكان لوضوح هذين الأمرين عند محمد أثر بالغ في توجيه المسار الحركي لدعوته الإسلامية، يتضح فيما يلي:

لم يفرض محمدٌ على أتباعه الجدد أي شرائع أو قوانين تنظم حياتهم الاجتماعية أو السياسية أو الاقتصادية.

لم يلزم أتباعه بمنهج أخلاقي جديد كالذي سيفرضه عليهم في المدينة، بعد توفير البيئة المناسبة لها.

لم يأمر أتباعه بأكثر من استيعاب عقيدة التوحيد والدعوة إليها، والصبر على الابتلاء الناجم عن ذلك. مجرد دراسة واستيعاب، لم يترتب عليهما أي تطبيق فعلي لمتطلباتهما.

أمر أتباعه بالالتزام بالعادات والتقاليد الحسنة الموجودة في المجتمع المكي.

فلا اندهاش حين نسمع أن أتباع محمد (الصحابة) في المجتمع المكي - وهم المسلمون الأوائل - شاركوا المجتمع كل معاصيه، فكانوا (وفيهم أميرهم محمد) يشربون الخمر، ويلعبون الميسر، دون أن يحسّوا أن هناك تناقضاً بين سلوكهم وبين العقيدة الجديدة التي أُمروا بدراستها والإيمان بها، ما داموا في بيئةٍ لا تسمح لهم بالترفّع والسمو. ذكر ابن الجوزي في كتابه "زاد المسير": "أنزل الله تعالى في الخمر أربع آيات: نزل بمكة قوله: "وَمِنْ ثَمَرَاتِ ا لنَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً" (النحل 16: 67). فكان المسلمون يشربون الخمر في أول الإسلام وهي لهم حلال. ثم نزل (بالمدينة) قوله: "يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ" (البقرة 2: 219) فتركها قومٌ لقوله: قل فيهما إثم كبير وشربها آخرون لقوله: ومنافع للناس !

ثم أن عبد الرحمن بن عوف صنع طعاماً ودعا إليه ناساً من أصحاب محمد فأطعمهم وسقاهم الخمر. فلما حضرت صلاة المغرب قدّموا أحدهم ليصلي بهم فقرأ: قل يا أيها الكافرون.. أعبد ما تعبدون أي حذف "لا" فنزل قوله: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُون" (النساء 4: 43). فحرّم الله السكر في أوقات الصلاة، فكان الرجل يشرب الخمر بعد صلاة العِشاء فيصبح وقد زال سكره. ثم أن عُتبان بن مالك صنع طعاماً، ودعا إليه رجالاً من المسلمين فيهم سعد بن أبي وقاص وكان قد شوى لهم رأس بعير، فأكلوا وشربوا الخمر حتى أخذت منهم، فافتخروا، وتناشدوا الأشعار. فأنشد بعضهم قصيدة فيها افتخر قومه وهجا الأنصار. فأخذ رجلٌ من الأنصار لحي بعير فضرب به رأس سعد فشجَّه، فانطلق سعد إلى محمد يشكو الأنصار. فأنزل الله: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ" (المائدة 5: 90). إلى قوله "فهل أنتم منتهون" فقال عمر بن الخطاب: "انتهينا ربنا انتهينا".

وكان المسلمون الأولون، وأميرهم محمد، يتاجرون في الخمور، ويربحون منها الربح الفاحش كما يربحون من الميسر!! يقول الإمام القرطبي في كتابه الجامع لأحكام القرآن : فإن قيل: كيف يكون في الخمر منافع مع أنها تذهب بالمال والعقل؟ فالجواب: المراد بالمنافع في الآية المنافع المادية التي كانوا يستفيدونها من تجارة الخمور ويربحون منها الربح الفاحش، كما يربحون من وراء الميسر. ومما يدل على أن النفع مادي، أن الله تعالى قرنها بالميسر .

وكان المسلمون الأوائل يتعاملون بالربا، ولم يجدوا في هذا تناقضاً مع دراستهم للعقيدة الجديدة والإيمان بها، لأن الواقع الجاهلي كان يفرض عليهم هذا الأسلوب. يقول الشيخ "الصابوني" في كتابه "تفسير آيات الأحكام" : "مرَّ تحريم الربا بأربعة أدوار كما حدث في تحريم الخمر".

نزل قوله في الروم 30: 39:"وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلاَ يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ". وهذه الآية مكية وليس فيها ما يشير إلى تحريم الربا، وإنما فيها إشارة إلى بغض الله له، وأن الربا ليس له ثواب عند الله. فهي إذاً موعظة حسنة.

ثم نزل قوله في النساء 4: 160، 161 "فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ". وهذه الآية مدنيّة، وهي درسٌ قصَّه الله على المسلمين من سيرة اليهود الذين حرم عليهم الربا فأكلوه، فاستحقوا عليه اللعنة والغضب. وهو تحريم بالتلويح لا بالتصريح.

ثم نزل قوله في آل عمران 3: 130: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً". وهي مدنيّة أيضاً، وفيها تحريمٌ صريحٌ للربا، ولكنه تحريم جزئي لا كلي، لأنه تحريم لنوع من الربا يسمى الربا الفاحش.

وأخيراً نزل قوله في البقرة 2: 278، 279: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ". وهذه هي المرحلة الأخيرة التي نزل فيها التحريم الكلي القاطع. وهنا نسأل: لماذا لم يفرض محمدٌ على أتباعه في مكة، حيث سادت البيئة الجاهلية، شرائع ولا قوانين؟ ولماذا لم يضع لهم برنامجاً أخلاقياً كالذي وضعه لهم في المدينة بعد ثلاثة عشر عاماً من بدء الدعوة؟ ولماذا ترك محمد أتباعه مسلمي المعتقد والفكر، جاهلي السلوك والتصرف؟ ولماذا كانت المدينة دون مكة هي محطّ نزول الشرائع والقوانين؟

ويجيب سيد قطب بقوله: لأن المسلمين الأوائل لم يكن لهم سلطان على أنفسهم ولا على المجتمع، فكيف ينفّذون هذه القوانين بلا سلطة أو سيادة؟!! .

إن المنهج الأخلاقي الذي يفرضه الإسلام لا يمكن أن يُطبَّق إلا في جّوٍ يسوده الإسلامويحكمه. وبما أن البيئة الإسلامية لم تتوفر في مكة فقد تأجل تطبيق الشرائع والمناهج الأخلاقية لحين ظهور هذه البيئة في المدينة بعد الهجرة.

إذاً: فقياساً على المنهج الحركي الذي أعدَّه محمد وسار عليه أتباعه لقيام مجتمع إسلامي على أنقاض المجتمع الجاهلي، يظهر خطأ جميع المناهج الحركية التي طرحتها الجماعات الإسلامية كطرق ووسائل للوصول إلى تطبيق شرائع الإسلام وقوانينه، وأصبح طرح بديل آخر حتمية يفرضها إصرارهم الملِحّ على إنقاذ البشرية بقوانين الشريعة. وظهر رأيٌ يقول بإلزام المسلمين بالاقتداء بمحمد في منهجه الحركي الذي نجح في قيام مجتمع الإسلام في المدينة. ويرون أننا الآن نعيش في فترة مكية وبالتالي فليسعنا ما وسع رسول الله فيها . فإن كان المسلمون الأوائل تعاملوا مع الواقع الجاهلي بجاهلية، فلنتعامل نحن أيضاً مع الواقع بواقعية. وإذا كانت البيئة ذات أثر فعال في توجيه التشريع الإسلامي وقت نزول القرآن، فلتكن البيئة الآن هي مصدرنا الرئيسي في تحريمنا وتحليلنا للأشياء، لا آخر ما نزل من الشرع. وحجّتهم واضحة: إن تدرُّج الشرائع والقوانين الذي حدث مع المسلمين الأوائل في مكة كانت له حكمته، بسبب البيئة المواتية، فكان لتعطيل المنهج الإسلامي مبرراته التي ما تزال قائمة في بيئتنا وعصرنا الحالي.

وأصحاب هذا الرأي ينكرون على الفصائل الإسلامية المختلفة اعتراضهم على هذا الرأي بقولهم إن قول القرآن: "ا لْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ا لْإِسْلَامَ دِيناً" (المائدة 5: 3)

أوجب على المسلمين تنفيذ شرائعه وقوانينه وكافة تعاليمه، ناسخة كل مراحل التدرُّج والتمهيد. وقد طُرح هذا الرأي تحت عنوان فقه الأقلية للأستاذ فهمي هويدي، في معرض الحديث عن وضع المسلمين في أوربا وأمريكا حيث يجدون صعوبة بالغة في تطبيق إسلامهم في المجتمع الأوربي والأمريكي مما جعلهم يجتهدون في صياغة علاقتهم بذلك المجتمع. ومن أجل هذه الصياغة كان عليهم أن يعيدوا النظر في العديد من الاجتهادات المستقرة في الفقه الإسلامي، والتي أفرزتها ظروف العيش في دولة غير مسلمة. فعلى صعيد الأسرة مثلاً، إذا أخذنا بمبدأ تطليق الزوجة التي تدخل إلى الإسلام من زوجها غير المسلم - كما هو مستقر في الفقه حالياً - فإن ذلك سيؤدي إلى تدمير مستقبل كل أسرة تهتدي الزوجة إلى الإسلام، الأمر الذي يمكن أن يؤدي إلى مصادرة انتشار الإسلام ذاته - فهل يطبق المبدأ بأي ثمن، أم تُراعى الظروف؟ وهو ما أقره الإمام المودودي بالنسبة للأقلية المسلمة في الهند؟

مثال آخر: ماذا يفعل المسلمون الذين يشتغلون في المطاعم وليست لديهم فرص عمل أخرى بينما تقدم هذه المطاعم لحم الخنزير أو النبيذ وغير ذلك مما هو محرم شرعاً؟ هل يستمرون في أعمالهم ويقدمون هذه المحرمات للناس؟ أم يتركون تلك الأعمال ويقعدون عاطلين؟

ومثال ثالث: إذا أراد المسلم أو المركز الإسلامي أن يبني بيتاً أو مقراً، هل يقترض من البنوك بفائدة أم لا؟ خصوصاً وأن هذا هو الخيار الوحيد المتاح.

ومثال رابع: قضية الاختلاط وقضية الفنون التعبيرية والموسيقى والرقص والغناء.

وأخيراً يقدم الأستاذ هويدي مسألة الحريات كنموذج من طراز خاص. فحتى تمارس الأقلية المسلمة مختلف حقوقها والتزاماتها العقائدية، فقد بات مهماً أن تكون استراتيجية المركز الإسلامي منحازة على الدوام إلى جانب إطلاق حرية الاعتقاد والشعائر والممارسات، وهو ما يستفيد منه الجميع حتى عبدة الشيطان وطبقات أهل الفجور، إذ أنهم بغير هذا الموقف سيخسرون مجال حركتهم، وبالتالي فإنهم اعتمدوا المنطق الذي يقول

"لنبْقَ مع الحرية حتى لو أدى ذلك إلى وقوع ما يخدش عقائدنا وأخلاقنا".

ومن هذا يتضح أن أصحاب "فقه الأقلية" يتحدثون عن الوضع في البلاد التي تعلن صراحة أنها ليست إسلامية كأوربا وأمريكا، بينما يتحدث غيرهم عن الوضع في المجتمعات التي تزعم لنفسها أنها إسلامية، والتي تؤكد بعض مظاهرها الخارجية ذلك.

ونحن نرى أن الاتجاهين متشابهان إلى حد بعيد في جوهر القضية المطروحة، وكلاهما يؤكد عجز شريعة الإسلام على التطبيق خارج نطاق البيئة المُعدَّة لها، المصنوعة خصيصاً من أجلها. وهم قد قضوا، بقصدٍ أو بغير قصدٍ، على فكرة صلاحية الشريعة الإسلامية لكل زمان ومكان. وهناك اتجاه التريُّث والتمهيد والإعداد للمجتمع حتى يصبح قادراً على استيعاب تطبيق قوانين الشريعة الإسلامية. وهذا يعني بالطبع حل مشكلة التنمية والبطالة والفقر والجوع والإسكان والتعليم ومعظم المشكلات التي نكافح منذ عشرات السنين لنعالجها، دون أن تبدو في المستقبل القريب بارقة أمل لحلّها! وحتى لو أمكن حل هذه المعضلات والتغلب على جميع الصعاب والمشاكل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي يعاني منها مجتمعنا الحالي.. فهذا يعني أننا قد قمنا بحل مشاكلنا الرئيسية بوسائل أخرى غير الشريعة، وبذلك تختفي الأسباب التي كانت تستوجب تطبيقها، محطمين بذلك الأسطورة الثانية التي يقول أصحابها إن الشريعة هي مشروع الإنقاذ الوحيد القادر على حل معضلات الحياة كلها!!

 

الفصل الخامس: إسلاميون هازلون

"إني أُنكر وأستنكر استفتاء الإسلام اليوم في أية مشكلة من مشكلات هذا المجتمع، فالذين يستفتون الإسلام - بحسن نية - هازلون، والذين يردّون على هذه الاستفتاءات، والذين يتحدثون عن مكان أي وضعٍ مِن أوضاع البشرية الحاضرة من الإسلام ونظامه، أشد هزلاً".

هذه دعوةٌ صريحة لتنحية رأي الإسلام من ساحة الواقع، وإقصاء الحلول الإسلامية على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي من حلبة الصراع الأيدلوجي. والغريب أن الذي أطلق هذه الدعوة ليس من المعسكر الشيوعي ولا من التيارات التي تُوصف بالعداء للتيار الإسلامي، ولا هو من الذميين الحاقدين على الإسلام والمسلمين، لكنه من ذات القاعدة التي أطلقت وما زالت تطلق دعوتها بالمطالبة الفورية بتطبيق الشريعة الإسلامية!

هذه دعوة سيد قطب عملاق الفكر الإسلامي - كما يحلو لبعض الإسلاميين وصفه - وهو المنتج الأيدلوجي لجماعة الإخوان المسلمين أُم الحركات الإسلامية المعاصرة. ومؤلفاته - التي دّون فيها هذه الدعوة وشرحها وأيدها بالأدلة وجعل منها نظرية فقهية جديدة - من أكثر الكتب الإسلامية رواجاً وانتشاراً، كما يؤكد ذلك المراقبون للحركة الثقافية، وهو صاحب أعظم تفسير حركي للقرآن.

لقد أدرك سيد قطب أن الإسلام لا يمكن أن يُطبَّق إلا في مجتمع خاص به، وبيئة من صنعه. ولذا فعندما أعلن في كتابه معالم في الطريق جاهلية المجتمع الذي نعيش فيه، أعلن أيضاً أنه لا يصلح لتطبيق القوانين الإسلامية. واعتبر تقديم وجهة النظر الإسلامية لقضايا هذا المجتمع عبثاً وهزلاً ينافي روح الإسلام الواقعية. فالواجب أن يُسلم هذا المجتمع أولاً ويفهم معنى لا إله إلا الله . فإذا دخل في الإسلام أمكنه أن يجتهد لحل مشكلاته. أما دُعاة الإسلام فقد وقعوا فريسة مناورةٍ خبيثةٍ من الجاهلية دفعتهم إلى إحراج الإسلام عندما حاولوا تقديم شرائعه في غير بيئته فيجب على دُعاة الإسلام ألاّ يستجيبوا لها وأن يكشفوها ويستَعْلوا عليها، وأن يرفضوا السخرية الهازلة فيما يُسمَّى تطوير الفقه الإسلامي في مجتمع لا يعلن خضوعه لشريعة الله .

وهو يهاجم من أسماهم المخْلِصين المعجّلين من أصحاب الدعوة الإسلامية، الذين يُخيَّل إليهم أن عرض أسس النظام الإسلامي والتشريعات الإسلامية على الناس مما ييسّر لهم طريق الدعوة ويحبّب الناس في هذا الدين. وهو وهمٌ تنشئه العَجَلة وعدم التدبُّر لطبيعة هذا الدين ومنهجه الرباني (من مقدمة تفسيره لسورة الأنعام).

ويفصِّل سيد قطب دعوته في كتابه الإسلام ومشكلات الحضارة فيقول: "إن محاولة وضع أحكام تشريعية فقهية إسلامية لمواجهة أقضية المجتمع الذي تعيش فيه البشرية، والذي ليس إسلامياً، ليست من الجد في شيء، وليست من روح الإسلام الجادة في شيء. إنه عبث مضحك أن نحاول مثلاً إيجاد أحكام فقهية إسلامية للأوضاع الاجتماعية والاقتصادية في أمريكا أو روسيا، وكلتاهما لا تعترف ابتداءً بحاكمية الإسلام".

إن أبا بكر وعمر وعلياً وابن عباس، ومالكاً وأبا حنيفة وأحمد بن حنبل والشافعي، وأبا يوسف والقرافي والشاطبي، وابن تيمية وابن قيم الجوزية والعز بن عبد السلام وأمثالهم، كانوا وهم يستنبطون الأحكام:

أولاً - يعيشون في مجتمع إسلامي يحكّم الإسلام وحده في شئونه، حتى مع بعض المخالفة الجزئية في بعض العصور.

ثانياً - كانوا يزاولون العقيدة الإسلامية والمنهج الإسلامي في حياتهم الخاصة، وفي إطار المجتمع الإسلامي الذي يعيشون فيه، ويتذّوقون المشكلات ويبحثون عن حلولها بالحسّ الإسلامي، ومن ثمّ كانوا مستوفين للشرطَيْن الأساسيين لنشأة فقه إسلامي وتطّوره ليواجه الأحوال المتطّورة، فوق استيفائهم طبعاً لشروط الاجتهاد. أما الآن، فمع احترامي الكبير للعلماء المعاصرين والتجاوب مع شعورهم المخلص ورغبتهم المشكورة، وتقديري للجهد الذي يبذلونه - يحاولون استنبات البذور في الهواء. وإلا فأين هو المجتمع الإسلامي الذي يستنبطون له أحكاماً فقهية إسلامية يواجه بها مشكلاته؟

إن كل حكم فقهي يوضع الآن لمواجهة مشكلة قائمة في المجتمعات التي ليست إسلامية، لن يكون هو الذي يصلح الواقع في مجتمع إسلامي، لأن هذه المشكلة ذاتها قد لا تقوم أصلاً في المجتمع الإسلامي حين تقوم. وإذا قامت فلن تكون بحجمها وشكلها، ولن تكون طريقة المجتمع في مواجهتها، وهو إسلامي، هي طريقته في مواجهتها وهو جاهلي .

هذا ما انتهى إليه عملاق الفكر الإسلامي الشيخ سيد قطب في مؤلفاته، وقد جاء حلاً للعديد من المعضلات التي طرحتها كتابات الإسلاميين في فقه الحركة .

جاءت دعوته لتنحية الإسلام من الساحة متماشية مع ما يقدمه الإسلاميون من فهم شامل للإسلام. فهذا التراث الذي ورثه المسلمون المعاصرون من قوانين وتشريعات موجودة في بطون الكتب القديمة، جاء من مجتمع مسلم، ونشأ من خلال حركة هذا المجتمع المسلم في مواجهة حاجات الحياة الإسلامية الواقعية. كذلك لم تكن الشريعة الإسلامية هي التي أنشأت المجتمع الإسلامي، إنما كان المجتمع الإسلامي بحركته الواقعية لمواجهة حاجات الحياة الإسلامية هوالذي أنشأ الفقه الإسلامي. فالإسلام كما قدمه الإسلاميون دين ودولة، ومصحف وسيف وعبادة وقيادة. وهو قبل هذا وبعده دين متكامل يتضح تكامله من مناهجه التشريعية النابعة من بيئته، بحيث لا يمكن تطبيق هذه التشريعات خارج نطاق بيئته التي فُصِّلت من أجله تفصيلاً. فإذا لم تكن تلك البيئة موجودة افتقدت دعوة تطبيق الشريعة أهم سند لها!

ستحل دعوة تنحية الإسلام من الساحة لغز المعادلة الصعبة، وسترفع التناقض الواقع على أبناء الحركة الإسلامية حين يُطالبون بتطبيق منهج الإسلام في أنفسهم ليُقام على أرضهم، في حين لا توجد البيئة المساعدة على ذلك. إذ أنه بموجب هذه الدعوة أصبحوا أحراراً من قيود المناهج الإسلامية غير القابلة للتطبيق في البيئة المعاصرة، أو البيئة الجاهلية بتعبيرهم.

تُقدّم دعوة سيد قطب الحل المنطقي للأسئلة التي كانت تطرح نفسها إزاء مبادئ الشريعة والتي كانت تبدو غريبة، مثل عدم تزكية النفس وعدم ترشيحها للمناصب، وهو المأخوذ من قول القرآن: "فَلاَ تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ" (النجم 53: 32). ومن قول محمد "إنّا والله لا نولي هذا العمل أحداً سأله". فإن الباحثين الإسلاميين ظلوا يبحثون عن حل لتطبيق قواعد النظام الإسلامي وأحكامه الفقهية، فإذا بهم في حيرة. فكيف سيختارون أهل الحل والعقد أو أهل الشورى، من غير ترشيح من أنفسهم ولا تزكية؟

وكيف يمكن هذا في مثل هذه المجتمعات التي نعيش فيها، والناس لا يعرف بعضهم بعضاً، ولا يوزنون بموازين الكفاية والنزاهة والأمانة؟ وكيف سيختارون الإمام؟ هل يكون الاختيار من عامة الشعب أم يكون من ترشيح أهل الحل والعقد؟ وإذا كان الإمام سيختار أهل الحل والعقد - متابعة لعدم تزكيتهم وترشيحهم لأنفسهم - فكيف يعودون هم ليختاروا الإمام؟ ألا يؤثّر هذا في حكمهم؟

ثم إذا كانوا هم الذين سيعودون فيرشحون الإمام، ألا تكون لهم ولاية عليه وهو الإمام الأعظم؟ ثم ألا يجعله هذا يختار أشخاصاً يضمن ولاءهم له، ويكون هذا هو العنصر الأول في اعتباره؟

ورفض سيد قطب طرح مثل هذه الأسئلة وغيرها من مناهج الشريعة، لأن طرحها الآن والبحث عن إجابات عنها في كتب الفقهاء القديمة يُعدّ اعترافاً ضمنياً بإسلامية المجتمع الحاضر، وهو ليس كذلك. وهو أيضاً اعتقاد بأنهم سيجيئون بقواعد الإسلام ونظامه وأحكامه الفقهية لتُطبَّق على هذا المجتمع الجاهلي بتركيبه العنصري الحاضر وبقيمه وأخلاقه الحاضرة. وهذا أمر لا يصعب تحقيقه فحسب، بل يُعدّ مخالفةً لروح الإسلام أيضاً.

وأخيراً أقتبس كلمات سيد قطب من كتابه في ظلال القرآن : إن العمل في الحقل الفكري للفقه الإسلامي عمل مريح، لأنه لا خطر فيه. ولكنه ليس عملاً للإسلام، وهو لا من منهج هذا الدين ولا من طبيعته. وخير للذين ينشدون الراحة والسلامة أن يشتغلوا بالأدب والفن أو التجارة. أما الاشتغال بالفقه الآن على هذا النحو بوصفه عملاً للإسلام في هذه الفترة، فأحسب - والله أعلم - أنه مضيعة للوقت والأجر معاً .

وقول سيد قطب هذا في حق الفقهاء المعاصرين ألقى في وجوههم قنبلة لم تُودِ بحياتهم فقط، ولكن أدَّت إلى مصرع دعوته أيضاً. فلم تعد حركته الإسلامية التي ينتمي إليها تملك عناصر البقاء، إذ أن دعوة تنحية الإسلام وشريعته من المجتمع إقرارٌ ضمني بشرعيّة عمل القوانين الوضعية لحين قيام المجتمع المنشود، الذي لم يوضح سيد قطب وأقرانه لنا كيف يقوم وما الطريق الذي يوصّل إليه.

 

الفصل السادس: حتمية التشريع البشري

عندما قامت الثورة الإسلامية الإيرانية وأقامت حكماً إسلامياً كاملاً في بلدٍ يملك جميع مقّوِمات النهوض والتقدم، من طاقةٍ بشرية وموارد طبيعية وفيرة على رأسها التدفّق الغزير للبترول، وحضارة تضرب بجذورها في أعماق التاريخ، كان الناس ينظرون إلى الثورة الإسلامية الوليدة على أنها اختبارٌ حاسم لجميع الحركات الإسلامية المعاصرة. فإذا نجحت في إقامة مجتمع العدل والحرية والتقدم كان معنى ذلك أن هذه الحركات ستكسب قوة دفعٍ هائلة يصعب إيقافها في أي بلد من بلدان العالم الإسلامي الذي يشكو من التخلّف، ويرزح تحت أعباء أنظمة قمعية، ويتعطش لتلك الأصوات المنادية بالحكم الإسلامي وتطبيق الشريعة. فالاختبار الحاسم كان هناك في تلك الثورة التي أمسكت بزمام بلد إسلامي عظيم الأهمية له ماضٍ عريق، ومستقبل حافل بالإمكانات المشجِّعة.

ومع ذلك فإن مظاهر الإخفاق التي توالت على هذه الثورة الإسلامية عاماً بعد عامٍ، لم يتردّد صداها على الإطلاق لدى المنادين بالحكومة الإسلامية في بقية أقطار العالم العربي والإسلامي، فلم يتأثر هؤلاء بما انتهت إليه الثورة الإسلامية منذ إحكام قبضة رجال الدين على الدولة. وإنما ظلوا يرددون زعمهم القائل إن الحكم الإسلامي لا يعني تسليم زمام الأمر لرجال الدين. ولم يُبْدِ هؤلاء الدعاة أي استنكار لقيام هذه الحكومة بتصفية أحزاب المعارضة واحداً بعد الآخر، أو لتلك المحاكمات الصورية المتعجلة التي كان خلخاني يصدر فيها أحكام الإعدام بنفس السرعة التي يقرأ بها مدرس الفصل نتيجة الامتحان على تلاميذه، أو لفرض مناهج متزمّتة على التعليم الجامعي والتعليم العام، أو لروح الكآبة والعبوس التي سادت حياة الناس اليومية وارتسمت على تعبيرات وجوههم.

ولم تمض إلا سنوات قلائل حتى طُبِّقت تجربةٌ أخرى في السودان في ظروف مختلفة كل الاختلاف. وكان التطبيق هذه المرة بقرارٍ من حاكمٍ فرد، ظل يتقلّب بين الأنظمة والاتجاهات المختلفة، من اليسار إلى اليمين الإسلامي. وهلَّل دعاة تطبيق الشريعة لتجربة النميري على الرغم من مظاهر الظلم الصارخة، وطالبوا معارضيهم أن يمنحوا الرجل فرصة. وتجاهلوا المجاعة وأحكام الإعدام والاستنزاف الدائم لثروة البلاد، وسرقات الحكام لأموال الشعب بأسره. ووضعوا هذا كله في كفة والتطبيق الشكلي لحدود السرقة والخمر والزنا في كفة أخرى، فرجحت الكفة الثانية لديهم على المظالم الفادحة التي كانت في الكفة الأولى.

كانت هاتان آخر محاولتين )قبل كتابة هذا الكتاب( لتطبيق الشريعة الإسلامية ضمن سلسلة أطول من المحاولات الأسبق عهداً، كان على رأسها محاولة السعودية ثم باكستان، فضلاً عن المحاولات الجزئية في إندونيسيا وليبيا. وفي جميع هذه المحاولات كانت النتائج واحدة: أنظمة للحكم تبعُد كل البعد عن الحرية والعدالة والمساواة وجميع القيم التي سعت إلى إقرارها كافة الأديان ودعا إليها الفلاسفة والمصلحون منذ أقدم العصور. ومع ذلك فإن دُعاة تطبيق الشريعة الإسلامية في بلادنا لم يعيروا أي إهتمام لذلك الإخفاق الصارخ الذي انتهت إليه تلك التجارب السابقة بل زادت أصواتهم ارتفاعاً، في نفس الوقت الذي كانت فيه تجربة تطبيق الشريعة في السوادن قد تحولت إلى فضيحة عالمية مدوية.

فعلام يدل هذا التجاهل التام للواقع وللتاريخ القريب وللأمثلة والنماذج الملموسة؟ وكيف يرضى أي مجتمع أن يسلّم مقاليد أموره لجماعات تُغمض عينيها عن التجارب المحيطة بها ولا تحاول أن تتعلم من الدروس الماثلة أمامها، أو أن تُراجع خطواتها، وتُعيد النظر في أهدافها في ضوء الواقع الملموس؟

إن الرد الجاهز الذي يرد به أنصار هذه الجماعات على كل من ينبّههم إلى إخفاق هذه التجربة في تطبيق الشريعة هنا أو هناك هو: ليس هذا هو الإسلام. إن خطأ نميري أو غيره هو خطأ أشخاص، وليس خطأ الإسلام في ذاته . ولكن هذا الرد حقٌّ أُريد به باطل، فهو ينطوي على مغالطات فادحة، لأن أية تجربة تُطبَّق في أي مجتمع آخر ستكون بدورها مجرد تطبيق آخر! فهل بذلت جماعاتنا الإسلامية الداعية إلى تطبيق الشريعة أي جهد لتضمن على نحو قاطع تطبيقاً يخلو من هذه العيوب؟

وإذا قيل لنا: إن هؤلاء قد انحرفوا عن جوهر الإسلام، فهل نسينا أن كلاً منهم كان ولا يزال يؤكد أن تجربته هي التعبير الحقيقي لجوهر الإسلام، ويجد بين رجال الدين والإعلام في بلده من يقدم له أقوى الحجج التي تثبت صحة هذا التأكيد؟ فما الذي يضمن لنا ألا يتكرر ذلك في تجربتنا نحن؟ وعلى أي أساسٍ نأمُل في أن نكون نحن دون الباقين جميعاً قادرين على تجنُّب انحرافات التطبيق وتحقيق لبّ الإسلام وحقيقته؟

إن التجاهل التام للتاريخ، وإغماض العين عن الدروس التي يقدمها الواقع الفعلي، هو السمة التي تميّز موقف الحركات الإسلامية من كافة التجارب السابقة على مرّ التاريخ الإسلامي، فهي ترسم لنا صورةً للتاريخ الإسلامي مستمدَّة من النصوص الدينية فحسب. فإذا تحدثت مثلاً عن موقف الإسلام من العدالة الاجتماعية، جاء حديثها مليئاً بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تدعو إلى تلك العدالة، وتقف عند هذا الحد. وتتصور أنها قد أثبتت بذلك قضيتها الرئيسية، وهي أن الإسلام يدعو إلى العدالة الاجتماعية، وأنها تتحقق في الإسلام خيراً مما تتحقق في أي نظام آخر. لكن هل اقتباس النصوص وحدها يكفي لإثبات هذه القضية؟

إن دُعاة تطبيق الشريعة يرتكبون خطأً فادحاً حين يركزون جهودهم على الإسلام كما ورد في الكتاب والسُّنة، ويتجاهلون الإسلام كما تجسَّد في التاريخ، أعني حين يكتفون بالإسلام كنصوص ويغفلون عن الإسلام كواقع. ويزداد هذا الخطأ فداحة إذا أدركنا أن محور دعوتهم هو مشكلات الحكم والسياسة وتطبيق أحكام الشريعة، وكلها مشكلات ذات طابع عملي لا يكفي فيه الرجوع إلى النصوص، وإنما ينبغي أن يكمله على الدوام الاسترشاد بتجربة الواقع، فنحن في هذه الحالة لسنا إزاء مشكلة فلسفية أو كلامية نظرية، بل إزاء مشكلة تنتمي إلى صميم الحياة العملية للإنسان. ومن ثمَّ كان تجاهل ما حدث طوال التاريخ الماضي وفي المحاولات المعاصرة للوصول إلى حكم إسلامي خطأ لا يُغتفر.

وقد جرت عام 1986 ندوة بالقاهرة موضوعها الإسلام في مواجهة العلمانية تحدث فيها الأستاذ الدكتور فؤاد زكريا، أقتبس بعض ما قاله: يردّد دُعاة تطبيق الشريعة عبارات ذات تأثير عاطفي هائل على الجماهير، فتمرّ دون أن يتوقف أحدٌ لمناقشتها. وتتناقلها الألسن محتفظة بمحتواها الهلامي حتى تشيع بين الناس وكأنها حقائق نهائية ثابتة، مع أنها في ضوء التحليل العقلي عبارات مليئة بالغموض والخلط. وسأكتفي من هذه العبارات باثنتين: الحكم الإلهي في مقابل الحكم البشري وصلاحية أحكام الشريعة لكل زمان ومكان .

أما العبارة الأولى فإني أعترف أني عاجز عن فهم تعبير الحكم الإلهي أو الاحتكام في كل شيء إلى شرع الله، أو الحاكمية وما شابه ذلك من التعبيرات. إن الرجوع إلى النصوص الإلهية في الحكم لا يحول دون تدخّل العنصر البشري في اختيار النصوص الملائمة وتفسيرها بالطريقة التي تُرضي مصالح الحاكم، على نحو ما كان يحدث طوال معظم فترات التاريخ الماضي والحاضر. ففي عصر النبوّات وحده كان يجوز الكلام عن حكم إلهي. أما طوال التاريخ اللاحق الذي انتهى فيه ظهور الرسل والأنبياء، فإن مهمة الحكم أصبحت بشرية وستظل بشرية، حتى لو كانت الأحكام التي يُرجع إليها إلهية. فأسمى المبادئ الدستورية لا تحول دون أن يضطهد حاكم طاغية رعيته وينشر الرعب والظلم بينهم. وبالمثل فإن أرفع التشريعات السماوية لا تمنع - ولم تمنع طوال التاريخ - من وجود حكام مستبدّين يفسرونها على هواهم. والدرس البسيط الذي نستخلصه هو أن تطبيق أحكام الشريعة ليس في ذاته ضماناً لأي حكم أفضل من تلك الأنظمة التي ظلت تستبدّ بنا طوال التاريخ. وإنما المهم والأساسي والجوهري هو الضمانات التي تمنع الحاكم من الانحراف. ومفهوم الضمانات بشري بحت، تطور على مدى التاريخ، وخضع لأسلوب المحاولة والخطأ، واستطاعت البشرية أن تنمّيه وتزيده إحكاماً بعد تجارب طويلة مريرة أخفق الكثير منها ونجح القليل نجاحاً نسبياً. ولكن الناس ما زالوا يتعلمون ويستفيدون من كل تجربة.

أما العبارة الثانية التي يختلط معناها في الأذهان فهي صلاحية أحكام الشريعة لكل زمان ومكان. فأنا أشك كثيراً في أن يكون هناك نص ديني مباشر يحمل المعنى الذي فهمه بها قائلوها! وأعتقد أن التفكير في هذه العبارة بشيء من التعمُّق يكشف فيها عن تناقضين أساسيين:

الأول: يرجع إلى أن الإنسان كائن متغيّر، ومن ثمَّ ينبغي أن تكون الأحكام التي تنظم حياته متغيّرة. وهذا يحتّم أن تكون القواعد التي يخضع لها متغيّرة بدورها. فالعقل البسيط والمباشر يأبى أن يكون في المجال البشري ما يصلح لكل زمان ومكان، ما دام الإنسان ذاته قد طرأت عليه تغيرات أساسية في الزمان، منذ العصر الحجري حتى عصر الصواريخ، كما طرأت عليه تغيرات جوهرية في المكان ما بين بيئة الجزر الاستوائية البدائية وبيئة المدن الصناعية الشديدة التعقيد.

أما التناقض الثاني: فهو أن قولهم هذا يعني الحَجْر على الإنسان والحكم عليه بالجمود الأبدي، لأن الله قد وضع للناس، في وقتٍ ما، شرائع ينبغي أن يسيروا وفقاً لها إلى أبد الدهر. وأقصى ما يمكنهم أن يتصرفوا فيه هو أن يجدّدوا في تفسير هذا النص أو تأويل ذاك، ولكن الخطوط العامة لمسار البشرية اللاحق كله مرسومة ومحدَّدة. والتناقض هنا يكمن في أن أصحاب هذا الفهم يؤكدون في الوقت ذاته أن الله قد استخلف الإنسان في الأرض، وكرَّمه على العالمين. فهل يتمشَّى هذا الاستخلاف مع تحديد المسار البشري مقدَّماً، ووضع قواعد يتعيّن على الإنسان ألا يخرج عنها مهما تغيَّر وتطّوَر؟ هل يمكن أن يلجأ الأب الحريص على رعاية أبنائه وسلامة نموهم العقلي والنفسي إلى وضع قواعد ثابتة وأوامر محددة لا يحيدون عنها طوال حياتهم؟ أليس مما يتمشَّى مع حرصه عليهم أن يترك لهم هامشاً واسعاً من حرية التصرف؟

في الميدان البشري لا شيء ثابت أو نهائي. ولقد اعترف الكثيرون بهذه الحقيقة، ولو بصورة ضمنية، حين ميَّزوا بين أحكام الشريعة العامة وبين تطبيقاتها، وأكدوا أن الحكم العام يقبل تفسيرات ينبغي الاجتهاد فيها حسب متطلبات كل عصر. وهذا موقف سليم، ولكن ينبغي أن ننتبه جيداً إلى النتائج التي تترتَّب عليه. فكلما ازداد العصر تعقيداً وكلما جدَّت عليه متغيّرات عملية وتكنولوجية واجتماعية واقتصادية كان معنى ذلك أن دور الاجتهاد يتزايد، ودور المبدأ العام يتناقص، بحيث أن القدر الأكبر من الجهد الذي يُبذل من أجل تدبير شئوننا يصبح بشرياً، ويتعيَّن علينا أن نعتمد على عقولنا وتفكيرنا في معظم أمور حياتنا. وبقدر ما تزداد المسافة اتِّساعاً بيننا وبين عصر نزول الوحي، تزداد حاجتنا للاجتهاد البشري. إذاً سيظل هناك صراع بين الطابع التفصيلي للنص الإسلامي ومدى شموله، فكلما ازداد تفصيلاً زادت صعوبة تطبيقه في ظروف الحياة الإنسانية الدائمة التغيُّر. فإذا حُلَّ هذا الصراع عن طريق الاكتفاء بأعم مبادئ الشريعة كان معنى ذلك ملء التفاصيل من مصدر آخر غير الشريعة، هو مقتضيات العصر ومتطلّبات المجتمع في زمن معين، وتجربة الإنسان وخبرته الدنيوية، وكذلك ما يستمده من خبرات المجتمعات والشعوب الأخرى. فإذا عملت حساب تغيّر الأحوال البشرية كان من الضروري أن يقلّ شمول النصوص وتقتصر على العموميات، وإذا أصررت على التطبيق التفصيلي للنصوص كان معنى ذلك أنك تتجاهل حقيقة التغير.

إذاً سيظل النص الديني في حاجة إلى البشر ليصبح حقيقة واقعة ويطبق في مجال إنساني ملموس. وعلى الرغم من أن الإسلام لا يعرف كهنوتاً، ولا يعترف بهيئة كنسيّة منظمة تكون وسيطاً شرعياً بين كلمة الله وأفعال الإنسان، فإن تفسير النص الديني على يد إنسان ما يظل أمراً لا مفرّ منه حتى يصبح هذا النص حقيقة واقعة، وهكذا يبدو من الضروري وجود توسّط بشري من نوع ما بين النص والواقع، وفي عملية التوسّط البشري هذه تظهر كافة الأخطاء والتحيّزات التي يتعرض لها بنو الإنسان. فإذا كان النص إلهياً مقدساً فإن من يطبّقه ويفسّره إنسان يتصف بكل جوانب الضعف البشرية. وأخطر ما في الأمر أن الإنسان الذي يتصدى لهذا التفسير والتطبيق يُضفي على نفسه قدراً )يزيد أو ينقص( من تلك القداسة التي تتَّسم بها النصوص الدينية، ويقدم أوامره أو فتاويه للناس بوصفها تعبيراً عن رأي الدين ذاته، لا عن فهمه هو للدين، ويصف معارضيه بأنهم أعداء الدين، لا بأنهم أعداء طريقته الخاصة في تفسير الدين.

إن الحكم تجربة بشرية، قد تصيب وقد تخطئ. وحين نعترف منذ البداية بهذا المبدأ يصبح إمكان تصحيح هذه التجربة قائماً على الدوام. ولكن الحكم الذي يرتكز على السلطة الدينية، والذي هو على الدوام حكم بشري يعطي نفسه سلطة تفوق سلطة البشر، لا يصحح أخطاءه بسهولة، وربما أضفى على نفسه نوعاً من العصمة يمنعه أصلاً من الاعتراف بأي خطأ .

وبعد..

فإن ما تقدم من صفحات وما طرحتُه من علامات استفهام حول شريعة الإسلام لم يطرحها المناظر المسيحي وحده، بل شارك فيها علماء المسلمين، وعلى رأسهم الشيخ سيد قطب، والمودودي، وعدد من أساتذة التاريخ الإسلامي والفقه والشريعة، فضلاً عن التيار العلماني وعلى رأسه الدكتور فؤاد زكريا الذي ختمت بحثي بكلمته.

 

 

الفصل السابع: تحريفٌ في القرآن

 

كانت مرحلةُ جمع القرآن في مصحف من أخطر المراحل التي تعرَّض لها النصّ القرآني. لقد نزل القرآن على سبعة أحرف، وأجاز المسلمون قراءته بالمعنى دون اللفظ، وأباحوا تعدّد النصوص قبل توحيدها في مصحف عثمان. وقد جعل كل هذا مرحلة جمع القرآن نقطة تحّول في نزاهة النص القرآني.

فبالرغم من معارضة الصحابة في بداية الأمر لجمع القرآن في سفرٍ واحد، لأنهم رأوه بدعة لم يفعلها الرسول في حياته. وما أن خرجت الفكرة إلى حيّز الوجود حتى تعدّدت المصاحف، وأصبح لكل صحابي مصحفٌ لا يرضى عنه بديلاً!

روى عكرمة أن علياً بن أبي طالب قعد في بيته بعد بيعة أبي بكر، فقيل لأبي بكر: كره بيعتك! فأرسل لعلي قائلاً: أكرهت بيعتي؟ قال: لا والله! فسأله أبو بكر: ما أقعدك عني؟ قال: رأيتُ كتاب الله يُزاد فيه، فحدَّثْتُ نفسي أن لا ألبس ردائي إلا لصلاةٍ حتى أجمعه. قال أبو بكر: نِعْم ما رأيت.

أما مصحف أبيّ بن كعب فقد كان منتشراً في بلاد الشام، وهو يختلف عن المصحف العثماني بزيادة سورتي الحفد والخلع. وقد روى البيهقي أن عمر بن الخطاب صلّى بهما، وأن علياً كان يعلّمهما الناس، وكانوا يقرأون بهما في حضرة عبد الملك بن مروان!! (أي إلى عصر الدولة الأموية).

ويختلف مصحف أُبيّ عن غيره أيضاً في أن سورتي الفيل وقريش فيه سورة واحدة، لا سورتان كما في مصحف عثمان، وكذلك سورتا الضُّحى والانشراح.

وهناك مصحف ابن مسعود، وكان ابن مسعود من أئمة القرّاء الذين أوصى محمدٌ بهم، فقد أورد السيوطي عن جابر أنه سمع النبي يقول: خذوا القرآن عن أربعة: عبد الله بن مسعود، ومعاذ بن جبل، وسالم، وأُبي بن كعب . ويختلف مصحف ابن مسعود عما سواه في أنه لا يورد سورة الفاتحة والمعّوَذتين (الفلق والناس). ومن المرويّ عنه قوله: "إن المعوذتين ليستا من كتاب الله !"

أما مصحف زيد فقد كان جمعه وتدوينه بأمرٍ من الخليفة أبي بكر، بعد توصية عمر بن الخطاب له، وقد جمعه زيد من صدور الصحابة ومن العظام وأوراق الأشجار ولباب الأخشاب والنخيل!!

عثمان بين التوحيد والتحريف!

كانت مرحلة جمع القرآن ذات أثر واضح في تاريخ المصحف، فقد أصبحت هناك نصوص عديدة للقرآن مختلفة متباينة، وتفرَّق المسلمون وتشيَّعوا للنصوص، وقد بلغ الاختلاف أشده عندما تقاتلوا وكفَّر بعضهم بعضاً، وتبادلوا التّهم المختلفة، وعلى رأسها تهمة التحريف.

وعندما رأى الخليفة عثمان بن عفان ما حدث للمسلمين، عزم على أن يوحِّد أحرف القرآن على حرفٍ واحد. فقد روى أنس بن مالك أن الناس اختلفوا في القرآن على عهد عثمان حتى اقتتل الغلمان والمعلّمون، فبلغ ذلك عثمان، فقال: أعندي تكذبون وتلحنون فيه؟ فمَن نأى عني كان أشدّ تكذيباً ولحناً! يا أصحاب محمد اجتمعوا فاكتبوا للناس إماماً .

وبعد أن كوّن عثمان لجنة تتولّى كتابة المصحف، أمر بغيره من المصاحف وغلى لها زيتاً وألقاها فيه. وهذا يثير لدى الباحثين الشك في مصداقية النصّ الذي بين أيدينا.

فعلي بن أبي طالب يشهد أن كتاب الله يُزاد فيه!

ويذكرون أن علياً كتب في مصحفه الناسخ والمنسوخ، أما عثمان فقد حذف المنسوخ من مصحفه. وما بين أيدينا الآن به آيات عديدة ناسخة ومنسوخة!

ومن الحقائق التاريخية التي ستظل تثير شك الباحثين في تاريخ المصحف هو كيف اختلف ابن مسعود في مصحفه عن غيره من الصحابة، فأنكر سورة الفاتحة وسورتي الفلق والناس، وكفّر من اعتبرها من كتابالله؟! وابن مسعود هذا ممن أوصى محمد بالأخذ عنهم في قراءة القرآن، وقد رُوي عنه قوله إنه يعلم ما صغُر وما كبُر في القرآن - وعندما كُلِّف زيد بجمع القرآن من دونه غضب واشتدّ حنقه على تكليف من لم يتجاوز العشرين من عمره بهذه المهمة التي كان هو أكثر المؤهَّلين لها، فقال مستنكراً تكليف زيد بجمع القرآن: واللهِ لقد أسلمت وهو مازال في صُلْب رجلٍ كافر! .

أما مصحف أُبي فقد دُّوِن فيه ما ليس في المصحف العثماني من آيات وسور.

فلماذا كان الخلاف والاختلاف؟ وقد كان القوم حديثو عهدٍ بحياة قائدهم؟!

ونحن نتساءل أيضاً: لماذا تجاهل المسئولون عن جمع القرآن عظماء الصحابة أمثال علي بن أبي طالب، وأُبي بن كعب، وابن مسعود، وابن عباس؟ كما يحق لنا التساؤل: لما شكّل عثمان لجنةً لجمع القرآن وترتيبه ورفع المنسوخ منه، لماذا لم يرضَ هو ومن معه بنسخة زيد، وقد رضيها أبو بكر وعمر وعلي وكبار الصحابة مدة خلافة أبي بكر وعمر؟

إن فعلة عثمان التي فعلها في حق المصحف ستظل محل اتهام وتشكيك، وهي إحراقه لما بين يديه من مصاحف. فإذا كانت المصاحف التي سبقت المصحف العثماني، ومنها مصحف زيد الأول، موافقةً للنص العثماني الموحّد، فلماذا أُتلفت؟

وإذا كانت مخالفة وحقَّ عليها التلف، فكيف نطمئن إلى نسخة عثمان كما لم يطمئن هو إلى ما فعله أبو بكر وعمر وعلي؟!

 

الشيعة وتحريف القرآن

كل ما ذكرناه فيما مضى يمثِّل أقوال وآراء علماء السنّة المعتمَدين، وهي تطعن في نزاهة القرآن وتتّهمه تصريحاً وتلميحاً بالنقصان تارة، والزيادة تارةً أخرى، والتغيير والتبديل ثالثةً.

ويقول علماء الشيعة بوقوع الزيادة والنقصان في القرآن. وقد أجمع أهل النقل والتفسير عندهم على أن القرآن المتداوَل بين أيدي المسلمين اليوم ليس القرآن كله! قال بذلك علي بن إبراهيم وتلميذه الكليني وقال به أيضاً الإمام العياشي والطبرسي وغيرهم.

وقد أكد الإمام محمد بن جعفر في كتابه الإمامة أن الله لم يقل قط في القرآن ثَانِيَ ا ثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي ا لْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ ا للَّهَ مَعَنَا" (التوبة 9: 40).

وللمذهب الشيعي عدد من الكتب صنّفها كبار أئمتهم في تأكيد وقوع التحريف في النصوص القرآنية، أشهرها كتاب فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب للإمام النوري . وقال المؤلف في مقدمته: هذا كتاب لطيف وسفر شريف عملته في إثبات تحريف القرآن، وفضائح أهل الجور والعدوان .

والكتاب يضم ثلاث مقدمات وبابين:

ويؤكد المؤلف في مقدمته الأولى نبْذ ما جاء في جمْع القرآن وجامعه وسبب جمْعه، وقد تطرّق النقص والاختلاف بالنظر إلى كيفية الجمع، معّزِزاً رأيه بروايات للإمام الصدوق والطبرسي والصغار والكليني وابن شهر أشوب والمجلسي والعياشي والنعماني وغيرهم، ملخصها: أن علياً جمع القرآن ولم يزد فيه حرفاً، ولم ينقص منه حرفاً، فرفضوه ونبذوه وراء ظهورهم، وأن الخلفاء الثلاثة وَكلوا تأليف القرآن ونظمه إلى من وافقهم على معاداة أولياء الله، فأسقطوا منه ما تضمَّن مدحاً للأئمة والنص الجلي على إمارة أمير المؤمنين. وعلى هذا فلا يستطيع أحد ادّعاء جمع القرآن كله غير أمير المؤمنين علي بن أبي طالب. ويضيف الإمام النوري في كتاب فصل الخطاب : والجامعون، منهم جامعه الأول أمير المؤمنين، وجمْعه يخالف جمع الآخرين إجمالاً. أما المصاحف الأخرى فهي مصحف الخلفاء الثلاثة. ومصحف أُبي بن كعب، ومصحف ابن مسعود، وهذه مصاحف أربعة .

ويخلُص إلى القول: ويُستفاد من مجموع تلك الأخبار خاصيها وعاميها، منطوقها ومفهومها، وبعد إمعان النظر فيها أن القرآن الموجود الآن بين أيدي المسلمين شرقاً وغرباً المحصور بين الدفتين، جمعاً وترتيباً، لم يكن كذلك في حياة الرسول !

أما المقدمة الثانية لكتاب الإمام النوري فهي في بيان أقسام الاختلاف والتغيير الممكن حصوله في القرآن. والصور في الزيادة والنقصان كثيرة، فالنقصان يشمل سورة كسورة الحفد والخلع. أما التبديل فقد شمل الكلمة والحرف وحركات الكلمات .

وأكّد الإمام النوري رأيه باقتباس أقوال علماء الشيعة في تغيير وتحريف القرآن، وأورد أقوال أكثر من اثني عشر عالماً أصولياً يُقِرّون بتحريف القرآن، أمثال الكليني والمجلسي في كتابه مرآة العقول ومحمد بن الحسن الصيرفي في التحريف والتبديل وأحمد بن محمد في كتابه التحريف .

أما الباب الأول من كتابه فقد ذكر فيه الأدلة على وقوع التغيير والنقصان في القرآن، معّزَزة بالأخبار والروايات:

1 - هناك أخبارٌ تدلّ على سقوط آيات كثيرة مثل آية الرجم، ونقصان بعض السور، فسورة الأحزاب كانت بطول سورة البقرة، وسورة البيّنة ورد فيها ذكر سبعين شخصاً من قريش بأسمائهم وأسماء آبائهم، وأنها كانت في طول سورة البقرة!

2 - لعلي بن أبي طالب قرآن جمعه بنفسه، يختلف بالزيادة والنقصان عن قرآن عثمان. ومن الزيادات:

ألست بربكم، ومحمد رسولي، وعلي أمير المؤمنين.

... وكان أبواه مؤمنين وكان كافراً.

... وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي ولا محدث.

... وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم..

إن الإنسان لفي خُسر، وإنه فيه إلى آخر الدهر..

3 - وجود مصحف لعبد الله بن مسعود يخالف المصحف الموجود الآن، ويخالف أيضاً مصحف أمير المؤمنين (علي). ثم يذكر الإمام النوري بعض الآيات التي تفرَّد بها مصحف ابن مسعود:

إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل محمدٍ على العالمين

ألم نشرح لك صدرك، ووضعنا عنك وزرك الذي انقض ظهرك، ورفعنا لك ذكرك بعليٍّ صهرك.

نماذج من النصوص التي يعتقد الشيعة بتحريفها:

يقدم لنا الأستاذ محمد مال الله في دراساته عن الشيعة أكثر من ستين موضعاً يعتقد الشيعة بأنها محرّفة، نذكر بعضها، وقد وضعتُ العبارات المعتبرة لديهم والغير موجودة فيما بين أيدينا من مصاحف بين قوسين:

عن أبي بصير عن أبي عبد الله في القول:

"وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ (في ولاية الأئمة) فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً" (الأحزاب 33: 71) إذ يعتقد الشيعة أن صحابة محمد قد حذفوا كلمة "في ولاية الأئمة".

عن أبي بصير بن أبي عبد الله عليه السلام في القول:

فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ـ بتركهم ولاية أمير المؤمنين ـ عَذَاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (فصلت 41: 27).

عن الحسين بن مباح عمن أخبره قال: قرأ رجل عند أبي عبد الله عليه السلام وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ( التوبة 9: 105).

فقال: ليس هكذا، إنما هي: "والمأمونون" ونحن "المأمونون".

عن أبي حمزة عن أبي جعفر عليه السلام قال:

نزل جبريل عليه السلام بهذه الآية هكذا: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا (آل محمد حقهم) لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً (النساء 4: 168 و169.

عن أبي حمزة أيضاً في قوله تعالى: فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ (بولاية عليّ) إِلاَّ كُفُوراً (الإسراء 17: 89).

مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا (البقرة 2: 106) يرون أن أصل الآية بدون كلمة أو مثلها !

فماذا يقول القارئ في كل ما أوردناه هنا؟

 

الفصل الثامن: المادة التاريخية في القرآن

للإعجاز القرآني في رأي المسلمين، وجوه شتى، أبرزها الإعجاز التاريخي. ويلخّص علماء الإسلام أسانيدهم في قولهم القرآن في حديثه التاريخي كان قولاً إلهياً محكماً (د. أحمد شلبي في كتابه محاضرات في الحضارة الإسلامية). وقال د. البلتاجي في كتابه "دراسات قرآنية" : تحدَّث القرآن فأتى بخبر الأّولين، وتنبأ بحوادث الآخِرين، وهذا ما لا يتوفّر لأعرابي فضلاً عن كونه أمياً لا يقرأ ولا يكتب. فإن لم يكن وحياً فما مصدره؟ وقال سيد قطب في مقدمة كتابه "في ظلال القرآن": "ينبغي أن يكون الحكم للقرآن ونصوصه، لا للآثار والمؤرّخين، لأن القرآن أنزله الذي يعلم السر في السموات والأرض، وصاحبه يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى" (طه 20: 7). وهو يردّد دائماً "أأنتم أعلم أم الله؟".

هذا هو موقف بعض العلماء الإسلاميين من الإعجاز التاريخي، وهو موقف ليس إجماعياً، أي أنه ليس رأي الجمهور. فهناك من يرى أن التاريخ في القرآن لا يقع في دائرة المحكم، بل يقع في مربّع النصوص المتشابهة التي يجوز فيها التأويل والتفسير والاجتهاد، وحجتهم أن القرآن أتى في حديثه التاريخي بآيات مبهمات، ولم يُقطع في إشكالياته التاريخية الكثيرة بقولٍ فصل، بل تناولها بألفاظٍ مطاطة تُحمل على أكثر من معنى!

ونحن وإن كنا لا نقف في هذا الخندق أو ذاك، فإننا نرى أن التدليل على وجود الأسطورة في القرآن دليل كاف على إبطال القول بربّانية القرآن، ومع ذلك فنحن نضيف عدداً من الشواهد التي تؤكد صدق مذهبنا:

أهمل القرآن مقوِّمات التاريخ، فلم يحدّد الزمان والمكان، ولم يعيّن الأشخاص. فليس هناك قصة قرآنية جاءت فيها هذه المقوّمات. فقصة موسى، رغم تكرارها، لم تذكر لنا تفاصيل دقيقة من حياته لا يستغني عنها المؤرخ، مثل ذكر صفة موسى ونسبه ووقت إرساله، والقصد من ذلك، وأين وكيف جعل هارون وزيراً له وسبب ذلك؟ وما كان بينهما وبين القوم من جدلٍ وحوار، وغير ذلك مما لا يمكن الاستغناء عنه، لأن التاريخ لا يكون تاريخاً إلا به.

اختياره بعض الأحداث دون بعض، فلم يهتم القرآن بتصوير الأحداث الدائرة حول شخصٍ أو الحاصلة في أمةٍ تصويراً تاماً كاملاً، أي ما يلفت الذهن إلى مكان العظة وموطن الهداية. ولعله من أجل ذلك جمع القرآن في الموطن الواحد كثيراً من الأقاصيص التي تنتهي بالقارئ إلى غاية واحدة. مثلما فعل في قصص سورة هود. هذا فضلاً عن كونه لم يهتم بالترتيب الزمني أو الطبيعي في إيراده للأحداث وتصويرها.

إسناده بعض الأحداث لأناسٍ في موطن، ثم إسناده نفس الأحداث لغيرهم من الأشخاص في موطن آخر. ومن ذلك قوله: قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحرٌعليم قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (الأعراف 7: 109).

ولكنه يقول على لسان فرعون نفسه في نفس الموقف: قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (الشعراء 26: 34).

كذلك نجد في قصة إبراهيم أن البشرى بالغلام كانت لامرأته: "وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ" (هود 11: 69). بينما نجد أن البشرى لإبراهيم نفسه "وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاَماً قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ قَالُوا لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ" (الحِجْر 15: 51-53).

"هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لاَ تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلاَمٍ عَلِيمٍ" (الذاريات 51: 24-28).

4. إنطاقه الشخص الواحد في الموقف الواحد بعبارات مختلفة حين يكرر القصة، ومن ذلك تصويره لموقف الله من موسى حين رؤيته النار، فقد نودي مرة بقوله: "فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا" (النمل 27: 8) ونودي مرة أخرى بقوله: "فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِيِء الْوَادِي الْأَيْمَنِ فِي الْبُقَعْةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (القصص 28: 30).

وفي سورة طه: "فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً" (طه 20: 11، 12).

5. وجود مواقف جديدة لم تحدث أصلاً في سياق القصة مثل قوله عن اليهود: "وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ" (النساء 4: 157). فمن المعروف عقلاً ومنطقاً أن اليهود لم يقولوا إن المسيح رسول الله، لأنهم لو اعتقدوا بذلك لما قتلوه ولما صلبوه!

جاءت المادة التاريخية في القرآن لتكون في خدمة الدعوة الإسلامية، فلم تخضع لمناهج البحث العلمية، إنما كانت مادة موجَّهة تسيطر عليها الأغراض الدينية، فأصبحت مُجَسِّدةً لحياة محمد وأتباعه وقومه، لا لأحداث التاريخ الحقيقية. فسِيَر الأنبياء المذكورين في القرآن ليست حتماً هي أحداث حياتهم بقدر ما هي أحداث الدعوة المحمدية!

والقصص التي جاءت من أجل هذا الغرض كثيرة في القرآن، منها مجموعة القصص التي وردت في سورة هود، حتى لقد علّل البعض أسباب اختلاف قصة لوط في سورة هود عن قصته في سورة الحجر باختلاف الأحداث المتصلة بحياة محمد نفسه. فالقصد من سورة هود هو تثبيت قلب محمد وأتباعه، لذلك عُني القرآن بما نال لوط من أذى، فأبرز حالته النفسية، وقصد أن يوضح عواطفه ويصوّر أفكاره. وهكذا الأمر في كل القصص التي وردت في هذه السورة، مما يتلاءم مع بدايتها وختامها. ففي البداية يقول مصّوِراً نفسية محمد: "فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ" (هود 11: 12) ويقول في ختامها: "وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ" (آية 120).

أما القصد من قصة لوط في سورة الحِجر فقد كان لبيان ما ينزل بالمكذّبين من أذى. ومن هنا حرص القرآن على أن يجعل الملائكة تعلن عن نفسها وتخبر لوطاً بما سيحل بالقوم من مصائب وما سينزل عليهم من عذاب. وهو ما يتناسب مع حالة محمد، وقد صرّح به القرآن في ختام سورة الحِجر حين قال: فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِين" (الحجر 15: 92- 95). فالحرص على العذاب الذي ينزل بأقوام الرسل هو المقصود من القصة، وهو الذي يتلاءم مع ذلك القسم الأخير. فالمقاصد كما ترى هي التي يرمي إليها القرآن، وهي التي تُملي الأسلوب والطريقة، وهي التي من أجلها يسلسل القرآن الأحداث ويربط بينها بربُط العاطفة والوجدان.

وإضافةً على ذلك، فإننا إذا أردنا أن نختار قصةً قرآنية تمثل نفسية محمد وأتباعه في موقفهم مع قومهم، وفي فترة من فترات تاريخية أصدق تمثيل، فلن نجد أقوى ولا أعنف ولا أصدق من قصة نوح كما جاءت في السورة التي تحمل اسمه، فهي تعرض لمشكلات محمد وأتباعه في دعوتهم، وتتمشّى فيها حركة الأسلوب مع حركة العاطفة، وتصوِّر الضيق الذي ألمَّ بمحمد، ثم اتجاهه إلى الله ليخفِّف عنه البلاء وينقذ المؤمنين من جماعة الكافرين الضالة المُضلّة.

تقول السورة: "إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَنِ ا عْبُدُوا ا للَّهَ وَا تَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لاَ يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلاَّ فِرَاراً وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَا سْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً ثُمَّ إِنّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمُ مِدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً مَا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ ا للَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً وَجَعَلَ ا لَقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً وَا للَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الَأَرْضِ نَبَاتاً ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً وَا للَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطاً لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَا تَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَاراً وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً وَقَالُوا لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلاَ تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلاَلاً مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَاراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَاراً وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلاَ تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَبَار" (نوح 71: 1-28).

ويصوّر ما ورد في سورة نوح حالة محمدٍ وأتباعِه وصراعَهم مع قومهم. ولو حاول محمدٌ أن يكتب تاريخ دعوته لما أضاف على ما ذكرته هذه السورة شيئاً!!

إن التشابه تامٌ بين حال نوح في القصة وحال محمد. نلحظ ذلك في عناصر الدعوة من عبادة الله وطاعته، كما تلحظه في طريقة الدعوة من حيث الجهر والسرية وفي مقابلة القوم لمحور دعوته بالنفور والفرار، ثم الاستكبار وجَعْل الأصابع في الآذان، ثم في الأشياء التي رغَّب بها في الإيمان، وفي الإعداد بالمال والأنهار، ثم الأشياء التي تُلفِتهم إلى عظمة الله مِن خَلْقهم أطواراً، ومن خلق السموات السبع الطباق، ومِن جَعْل القمر نوراً والشمس سراجاً، ثم في مناجاته لربه تلك المناجاة التي يخبره فيها أنهم اتَّبعوا الأغنياء، ومَن لم يزدهم مالُهم وولدهم إلا خسارة، ثم في تصويره لمكر هؤلاء الأغنياء أو القادة حين طلبوا من قومهم البقاء على ما هم عليه من عبادة الأوثان.

والغريب الذي يدعو للدهشة أسماء الأوثان المذكورة في سورة نوح "وقالوا لا تذرُنّ وَداً ولا سُواعاً ولا يَغوث ويَعوق ونَسْراً" هذه الأوثان التي قالت السورة إن نوحاً كان يحارب قومه في عبادتها، لم تكن أوثان قوم نوح، وإنما كانت أوثان العرب! وهذا يؤكد الاختلاط والازدواج في السرد بين قصة نوح وقصة محمد، فتُسنِد السورةُ لنوحٍ ما كان لمحمد، بصورة تجعلنا لا نستصوب تسمية السورة سورة نوح ولكن سورة محمد !!

 

 

الفصل التاسع: الأسطورة في القرآن

 

القرآن كتاب الله، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. إنه كلام الله الحق، مجمع العلوم ومنتهاها. تلك أسطورة القرآن التي بددتها ورود الأسطورة نفسها فيه!!

إن الباحث في آي القرآن يجده قد أورد ما ليس له صلة بالحقيقة التاريخية، فالمادة التاريخية في القرآن قد جاوزت حدود الحق إلى الخرافة، وهو ما دفع المشركين المناهضين للدعوة الإسلامية في مكة أن يقولوا إن القرآن ما هو إلا أساطير الأولين (الأنعام 6: 25). فهل وردت في القرآن أساطير؟

لا بد من إيراد آيات القرآن التي تتحدث عن الأسطورة والأساطير:

"وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الْأَّوَلِينَ وَإِذْ قَالُوا الَّلهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ" (الأنفال 8: 31، 32).

بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَّوَلُونَ قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْهَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الْأَّوَلِينَ (المؤمنون 23: 81-83).

وَقَالُوا أَسَاطِيرُالْأَّوَلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرةً وَأَصِيلاً قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي ا لسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً. (الفرقان 25: 5، 6).

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَئِذَا كُنَّا تُرَاباً وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الْأَّوَلِينَ (النمل 27: 67، 68).

وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَّوَلِينَ (الأحقاف 46: 17).

وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَّوَلِينَ (القلم 68: 10-15).

وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَّوَلِينَ (المطففين 83: 10-13).

هذه هي الآيات التي عرض فيها القرآن لهذه المسألة، ومنها نستنتج الآتي:

هذه الآيات كلها من القرآن المكي، حتى ما وُضع منها في سورة مدنية كالأنفال مثلاً، فقد نصَّ العلماء على أن الآيات المشار إليها من السورة مكية، وإن كانت السورة مدنية. والذي يُفهم من ذلك أن حديث المشركين عن أساطير الأولين في القرآن كان من أهل مكة. ولم يقل بذلك أحدٌ في المدينة بعد الهجرة إليها.

الذين قالوا هذا الرأي هم في الغالب منكرو البعث والحساب، الذين لا يؤمنون بالحياة الآخِرة. وهذا واضح من آيات سُور المؤمنون والنمل والأحقاف والمطففين .

كان المشركون يعتقدون بما يقولون اعتقاداً جازماً، وكانت الشبهة عندهم قوية. وذلك واضح من الأنفال (8: 32) الَّلهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ.

لم ينْفِ القرآنُ عن نفسه وجود الأساطير فيه، وإنما حرص على أن ينكر أن تكون هذه الأساطير هي الدليل على أنه من عند محمد وليس من عند الله، ولذلك فعند استعراض الآيات السابقة نجد:

اكتفى القرآن بوصف هذا الصنيع من المشركين في آيات الأنفال والمؤمنون والنمل والأحقاف، ولم يعقب على قولهم!!

اكتفى بتهديد القوم في آيات سورتي الأنعام والمطففين، وهو تهديدٌ يقوم على إنكارهم ليوم البعث، أو على صدِّهم الناس عن ا تِّباع محمد، وليس تهديداً على قولهم بأن الأساطير قد وردت في القرآن.

ولا يعرض القرآن للرد عليهم في قولهم إنه أساطير إلا مرة واحدة: وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَّوَلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرةً وَأَصِيلاً قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ (الفرقان 25: 5، 6). فهل هذا الرد ينفي ورود الأساطير في القرآن؟ إنه ينفي فقط أن تكون هذه الأساطير من عند محمد، يكتتبها أو تُملى عليه، ويؤكد أنها وإن كانت أساطير فهي من عند الله!

ولذلك نُعجب من تساؤل الإمام الرازي في تفسيره لهذه الآية، إذ يتساءل: كيف يكون قول القرآن قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ (الفرقان 25: 6). إجابةً عن اتّهام المشركين للقرآن بأنه أساطير الأولين؟ . ذلك لأن المتبادَر إلى الذهن، والذي كان يتوقعه الرازي وغيره، أن يكون ردّ القرآن نفياً لهذه التهمة لا تأكيدها!

ونحن نرى أن إجابة القرآن هي الإجابة الطبيعية التي لا محيد عنها في هذا الموضوع، لأن مدار الحوار في القرآن بين محمد والمشركين لم يكن عن ورود الأساطير في القرآن، وإنما كان عن اتِّخاذهم ورودها دليلاً على أن القرآن من عند محمد لا من عند الله. ومن هنا كانت إجابة القرآن!

وهنا يطرح سؤالٌ نفسه:

لماذا انقطع القول بالأساطير عندما انتقل محمد من مكة إلى المدينة؟

السبب واضح فيما أعتقد، فالبيئة التي انتقل إليها محمد كانت قد تثقَّفت ثقافةً كتابية بفضل أهل الكتاب، فانتشرت الحقائق وسادت محل الأساطير والخرافات. وبما أن القرآن نتاج بيئة ومُعبِّرٌ عنها، فقد اختفت الأساطير باختفاء بيئتها، ولم تكن المدينة وسَطاً صالحاً لنمُّو مثل هذه الأحاديث!

والأغرب من موقف القرآن وردّه على مشركي مكة هو دفاع علماء المسلمين عن وجود أساطير في كتابٍ موحى به من الله، فهم يرون أن القرآن استخدم الأساطير التي كانت تعرفها البيئة العربية وقت نزوله تحقيقاً لعنصر التأثير في نفوس المعاصرين، وتمكيناً للإيمان به في قلوبهم!

فهل يستقيم مع هذا التفسير الادّعاء بأنه كلام الله الذي نَزل من اللوح المحفوظ؟

إن الله أعظم من أن يلجأ في كتابه المنزَل لهداية الخلق جميعاً إلى استخدام الباطل والأكاذيب ليجذب بها العرب من معاصري نزول القرآن، وهو يعلم أن هذا الكتاب سيؤمن به غيرهم في أزمنة مختلفة وأماكن أخرى! وهل يُعقل أن الله لم يعلم حال من سيؤمن بالقرآن من غير هؤلاء ممن تتكشف لهم حقيقة هذه الأساطير، كما زعم أصحاب هذه النظرية؟

ويقودنا القول بذلك إلى سؤال بالغ الأهمية: كيف يلجأ الخالق إلى موافقة خيالات أو أوهام العرب الجاهليين وقت نزوله، وهو القادر على أن يصوغ كتابه المنزل من الحقائق المتفقة مع الواقع والتاريخ، التي تُحدِث أثرها من الموعظة والعِبْرة في نفس الوقت؟

 

الفصل العاشر: الخطية والخلاص

 

يستعرض علماء الإسلام آيات القرآن التي تتحدث عن الخطية الأصلية لآدم وخلاص الجنس البشري، ثم ينتهون إلى رأي خلاصته: إن آدم وزوجته كانا يسكنان الجنة، وإن الله أمرهما أن يأكلا منها ما شاءا، إلا شجرة عيَّنها لهما. وعندما أصغيا إلى إبليس استحقّا العقاب الإلهي )غير المحدَّد في القرآن(. لكنهما استغفرا ربهما وأقرّا بذنبهما، فتاب الله عليهما. وكانت هذه الخطية والمعصية قبل أن يكون آدم نبياً.

فالقضية إذاً أن آدم عصى ربه، ثم تاب وأناب، وقُبلت توبته، فعاد الأمر كما كان، وسارت الخطة الإلهية المرسومة لآدم وزوجته، فأنجبا نسلاً، وجاءت البشرية. فليس هناك إرثٌ لخطية، وليس هناك بالتالي حاجةٌ لخلاص إلهي!!

والمسلمون يرفضون فكرة الخطية الأولى وتوارثها في بني آدم ويقولون: "لَا تَزِرُ وَازِرةٌ وِزْرَ أُخْرَى" (الأنعام 6: 164). و"كُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ" (الإسراء 17: 13). و"كُلُّ نَفْسٍ بَمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ" (المدثر 74: 38). ولكن علماء المسلمين بهذا ينكرون التأويل الصحيح لآية الخطية وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ" (البقرة 2: 35، 36). فقد خاطب الله آدم وحواء بصيغة الجمع "اهبطوا" بدلاً من "اهبطا" و"لكم" بدلاً من "لكما". ويقول علماء المسلمين إن الخطاب بالجمع هو خطاب النيابة، لأنه (في رأيهم) جاء على سبيل التعظيم! ويقولون إنه حتى لو كان آدم نائباً في الخطية بدليل قول القرآن "اهبطوا بعضكم لبعض عدو، ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين فإن الآية التالية تقول فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ" (البقرة 2: 37). فكما كان آدم بحكم الآية الأولى نائباً عن أبنائه في معصيته، فلماذا لا يكون بحكم الآية الثانية نائباً عن نسله في توبته واستغفاره؟!

ويحتجّ علماء المسلمين دائماً بالعدالة الإلهية التي تقضي بألاّ يُحاسَب إنسانٌ بذنب آخر، ويعوّلون كثيراً على آيات المسئولية الشخصية في الثواب والعقاب، والتي أشرنا إليها سابقاً، لينتهوا إلى أن آدم وزوجته أخطآ وتابا، فتاب الله عليهما. فليس هناك امتداد للقضية ولا إرث للخطية!

غير أننا إذا أمعنّا النظر في نصوص القرآن، وجدنا ما يثبت رأياً غير الذي ذهبوا إليه، ويؤكد وجهة نظر طالما رفضوها وأنكروها!

وهذه مجمل آيات القرآن التي تتحدث عن خطية آدم:

"وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ ا لشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ قُلْنَا ا هْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدَىً فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ" (البقرة 2: 35-38).

وفي سورة الأعراف: "وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُّوٌ مُبِينٌ قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُّوٌ وَلَكُمْ فِي ا لْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ" (الأعراف 7: 19-26).

وجاء أيضاً: "وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ" (الأعراف 7: 172).

"وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماًفَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُّوٌ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَى وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَأُ فِيهَا وَلاَ تَضْحَى فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَ يَبْلَى فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ثُمَّ ا جْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُّوٌ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى".

 

هذا مجمل حديث القرآن عن خطية آدم الأولى، ومنه نستنتج الآتي:

كان سكن آدم وزوجه الجنّة مطلَقاً غير مقيَّدٍ بزمن. قالت الآية: "وقلنا يا آدم اسكُن أنت وزوجك الجنة". فلو لم يزلّهما الشيطان لبقيا فيها مع نسلهما خالدَيْن. ولو كان مسكنهما مؤقّتاً مثل حال سكنهما في الأرض لجاز التحديد في الأولى كما جاء في الثانية قوله: ولكم في الأرض مستقر ومتاعٌ إلى حين .

كان سكنهما الجنة تحت شرط الطاعة الكاملة لله، فلقد أمرهما الله بعدم الأكل من هذه الشجرة. قال القرآن: "ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين". فلما أغواهما إبليس أكلا من الشجرة التي قال إبليس عنها إنها شجرة الخلد، فصدر الأمر الإلهي لهما بالهبوط.

في حالة الأكل من الشجرة واقتراف الإثم وإتيان المعصية كانا نائبين عن كل ذريتهما، بدليل القول: "اهبِطوا، بعضكم لبعضٍ عدو" وقوله: "لكم في الأرض" فلو كان الكلام موجَّهاً إلى آدم وزوجه فقط لجاءت الصيغة اهبطا ولكما أي صيغة المثنى لا الجمع. وسورة طه 20 تقول: "اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُّوٌ" (آية 123). ونحن لا نلتفت كثيراً لتأويلات العلماء التي لا تُشبع العقل ولا يُؤيّدها النقل، فلا نستسيغ أن يعظّم الله آدم وقد حكم عليه بالهبوط نتيجة اقترافه المعاصي. فإن كان آدم جديراً بالتعظيم فهذا الموقف بالذات ليس محله ولا مكانه! أما قولهم إن خطاب القرآن: "قلنا اهبطوا بعضكم لبعضٍ عدّو" كان خطاباً موجَّهاً للحاضرين وهم جمع آدم - زوجته - إبليس - الحية فهو تأويل مضحك لأن الآية التالية تقول: "فإمّا يأتينَّكم مني هدى، فمن تبع هداي فلا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون". فما هو الهدى المنتظر أن تتبعه الحية أو إبليس؟!

واضح أن آدم وزوجته تعدَّيا نهي الله فاقتربا من الشجرة المنهي عنها، فكان قصاصهما هو إيقاع العداوة والموت، فقد قيل: بعضكم لبعض عدو وهو ما يفيد العداء. وقيل: ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين وهو ما يفيد عدم الخلود في الأرض، بل الموت صراحة. وإذا تأملنا في ذرية آدم وجدناها تتحمل ذلك القصاص عينه )عداءً وموتاً(. فليس أمامنا إلا نتيجة من اثنتين: الأولى إن آدم وزوجه كانا نائبين عن نسلهما، فيكون اشتراك النسل مع نائبه في القصاص حقاً وعدلاً. والثاني إن آدم وزوجه لم ينوبا عن النسل، فيكون وقع قصاص الخطية التي ارتكبها آدم على من لم يشترك معه إثم عظيم وظلم ظاهر.

أما التشبُّث بفكرة الغفران المباشر فتلقّى آدم من ربه كلمات فتاب عليه فليس له معنى مع صدور الأمر الإلهي: "قلنا اهبطوا منها جميعاً" . فما معنى المغفرة مع الإصرار على إيقاع القصاص على المذنب؟ وما معنى قبول التوبة مع عدم قبول إرجاعهما إلى الجنة؟

إن التعويل على العدل الإلهي الذي لا يقبل أن يحاسب إنسان بذنب آخر تعويل على أساس واهٍ. فإن كنا نقبل دون اعتراض أن يولد الابن وهو وارث عن أبيه أحد الأمراض الوراثية، دون أن نرى في هذا ظلماً إلهياً، فلماذا نرفض حقيقة أننا نولد وقد ورثنا عن أبينا إثمه وخطيته؟

لم تكن فكرة توارث الخطية الأولى فكرة غريبة على الفكر الإسلامي بل نجد من الفقهاء من يؤصّلها ويؤكدها ويقدم الدلائل والبراهين عليها. فيقول ابن الأثير في "الأصول" : "إن محمداً قال: إذا حلّت الخطية في الأرض كان مَن شهدها فأنكرها كمن غاب عنها. ومَن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها". ثم يقول: "فإن قلت إن ظاهر قوله وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً" (الأنفال 8: 25). يشمل الظالم وغير الظالم؟ فكيف برحمة الله وكرمه أن يوصل الفتنة إلى من لم يذنب؟ ويجيب ابن الأثير إنه تعالى مالك الملك وخالق الخلق، وهم عبيده وفي ملكه، يتصرف فيهم كيف شاء، ولا يُسأل عما يفعل، وهم يُسألون. فيحسن منه على سبيل الملكية، أو لأنه تعالى علم اشتمال ذلك على نوع من أنواع المصلحة!

أما ابن حزم فيقول إن آية "وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى" (النجم 53: 39). فقد نُسخت بقوله: "وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ" (الطور 52: 21). وهذه الآية تجعل الطفل يوم القيامة في ميزان أبيه، ويشفع الله الآباء في الأبناء والأبناء في الآباء.

ويقول القرآن: "إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا" (الأعراف 7: 152). فقد كان محمد يتَّهم يهود عصره بأنهم عبدوا العجل، مع أن آباءهم هم الذين عبدوه، فقال: "إنّ الذين اتَّخذوا العجل". قال ابن عباس: "هم الذين أدركوا النبي، وآباؤهم هم الذين عبدوا العِجل!"

وقد فسَّر بعضهم: سينالهم غضبٌ من ربهم وذِلّة في الحياة الدنيا بما لحق بيهود بني النّضير وبني قُريْظة وخَيْبر من القتل والطرد، ولا يصحّ أن يُقال إنه حديث تاريخ، أي حديث عن اليهود الذين كانوا، وإلا فما معنى فسينالهم فهذا حديث المستقبل لا الماضي!

وفكرة توارث الخطية الأولى واضحة في الحديث الذي رواه أبو هريرة عن محمد يقول: لما خلق الله آدم مسح ظهره، فسقط مِن ظهره كل نسمة هو خالقها مِن ذريته إلى يوم القيامة، وجعل بين عيني كل إنسان وبيصاً من نور، ثم عرضهم على آدم فقال: أي ربّ، مَن هؤلاء؟ قال: هؤلاء ذريتك.

فرأى آدم رجلاً منهم، فأعجبه وبيص ما بين عينيه، فقال: يا رب، من هذا؟

قال: داود.

قال: رب كم جعلت عمره؟

قال: ستين سنة.

قال: يا رب، زِدْه من عمري أربعين سنة.

فلما انقضى عمر آدم إلا أربعين جاء ملك الموت، فقال آدم: أولم يبق من عمري أربعون سنة؟

قال: أولم تعطها ابنك داود؟

فجحد آدم فجحدت ذريته ونسي آدم فأكل من الشجرة فنسيت ذريته، وخطئ آدم فخطئت ذريته (أخرجه الترمذي وابن ماجه).

 

الفصل الحادي عشر: الصَّليب

 

حديث القرآن عن صلب المسيح وقيامته يثير كثيراً من الجدل بين أطراف القضية، فالبرغم من أن القرآن - كما يقول المسلمون - أتى للمسلم بما اختلف فيه أهل الكتاب، إلا أنه لم يأت بالقول الفصل في قضايا تاريخية كثيرة، كانت تثير نقاشاً واسعاً في عصره. ومن ذلك قضية الصلب. فالنص القرآني له وُجهة، والمفسّر له وجهة ثانية، ورأي العوام وجهة ثالثة. وما أبعد الشقَّة بين الأوجه الثلاثة! فنصوص القرآن التي تناولت هذه القضية هي:

:وَالسَّلاَمُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ ويَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً" (مريم 19: 33).

"وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ا لْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ" (البقرة 2: 87).

" إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ" (آل عمران 3: 55).

"وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّوَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (المائدة 5: 116، 117).

هذه النصوص القرآنية توضح أن المسيح مات وإن كانت لا توضح كيفية الموت. ولكن شذَّت عن هذا السياق، آية واحدة هي النساء 157:4"وما قتلوه وما صلبوه... وما قتلوه يقيناً".

فكيف عالج المفسّرون المسلمون هذا التناقض؟

قال بعضهم إن الوفاة التي جاء ذكرها في الآيات السابقة لا تعني الموت، بل تعني وفاة النوم . واستشهدوا على ذلك بقول القرآن: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ" (الأنعام 6: 60)، وفات هؤلاء المفسرين أن القرآن استخدم كلمة الوفاة بمعنى الموت الحقيقي أكثر من خمس وعشرين مرة، كما في (المائدة 5: 117) "وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي…" فالوفاة هنا عكس الحياة، فهي تعني الموت الحقيقي.

وقالوا أيضاً إن النساء 4: 157 نسخت آيات الوفاة، وهو تأويل واضح البطلان، فمن المعروف أنه إذا جاز النسخ في الأحكام والمعاملات فلا يجوز في الأخبار والتاريخ!

 

اختلاف التكامل

ونحن نرى أنه لا تناقض البتة بين النصوص، وإنما هو اختلاف التكامل لا التناقض، فالآيات الأربع السابقة تحدثت عن موت المسيح، أما النساء 4: 157 ففصَّلت كيفية الموت. ومعروف أن بالقرآن المحكم والمتشابه فالمحكم هو النص القرآني القاطع المانع الذي لا يحتمل التأويل. أما المتشابه فهو النص القرآني الذي يحتمل التأويل والتفسير على أكثر من وجه .

ومن أمثلة المحكم في القرآن قوله: "لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ" (الشورى 42: 11) ومن أمثلة المتشابه قوله: "يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ" (الفتح 48: 10).

وعلاقة المحكم بالمتشابه - كما حدّدها علماء المسلمين - أنه ينبغي أن يُردَّ المتشابه إلى المحكم ويُفسَّر بناءً عليه.

وهنا نطرح هذا السؤال: هل كان حديث القرآن عن الصلب ونهاية المسيح من النصوص المحكمة أم المتشابهة؟

يقول القرآن عن نفسه: "وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ" (المائدة 5: 48). وقد فسر المسلمون الهيمنة على أنها تصحيح لما فسد من العقائد السابقة، وتوضيح لما غمض منها. فيكون القرآن مصحِّحاً وموضِّحاً.

فهل قام القرآن فعلاً بهذه المهمة الأستاذية؟ إن الواقع القرآني يقول غير ذلك، فبالرغم من أن القرآن ظهر في وقتٍ اشتدَّت فيه المناقشة واحتدم فيه الجدال حول المسيح، لم يبيِّن القرآن حقيقة أمر المسيح بنصوص قاطعة، فلم يذكر مثلاً من هو الشبيه الذي صُلب بدل المسيح.

وإن كان المسيح لم يُقبر ولم يقم، فلماذا لم يقل القرآن أين ذهب المسيح وأين عاش؟

ولماذا لم يطرح القرآن حلاً للغز القبر الفارغ؟

وإن كان اتهام القرآن للكتاب المقدس أنه كتاب محرَّف )كما يقول المسلمون( فلماذا لم يخبرنا بمَن حرَّفه، وما هي النصوص التي حُرِّفت؟ ومتى حُرفت؟ وأين حُرفت؟ وما صحيحها؟

إن حديث القرآن عن العقائد المسيحية جاء في أكثره غامضاً مبهماً. لقد جاء القرآن وقد شاع القول بألوهية المسيح، فلماذا لم تكن النصوص التي تناولت هذه القضية واضحة النفي، إن كان يؤيِّد هذا النفي؟ لقد جاء حديثه مبهماً متشابهاً:

"إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ" (النساء 4: 171).

إن الطريقة التي اتبعها القرآن عند الحديث عن عقائد الكتاب المقدس جعلتنا نجزم أنها تدخل في دائرة الآيات المتشابهة التي يجوز فيها التأويل، فإذا عدنا إلى آيات القرآن عن موت المسيح، نجد آيات الوفاة صريحة في جزمها بأنه مات أما النساء (4: 157، 158) "وَقَوْلِهِمْ (أي اليهود) إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَالَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً بَل رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً". وهذه مِن متشابه القرآن التي ينبغي أن تُرد إلى آيات الوفاة الصريحة الواضحة فكيف نفسّرها طِبقاً لآيات الوفاة؟

إن النفي الواقع في الآية "وما قتلوه وما صلبوه" ليس نفياً واقعاً على الحدث بل نفياً للآثار المترتِّبة عليه فالآية موجَّهة لليهود الذين ظنوا أنهم بصلب المسيح وقتله على الصليب قد أبادوا ذكره نهائياً، وتخلصوا من دعوته فهم وإن كانوا قد مكروا لقتل المسيح، ظانين أنهم سيقضون عليه قضاءً مبرماً، إلا أن الله خيَّب مكرهم فرَفَعه من بين الأموات، فقام منتصراً على الموت "وما قتلوه وما صلبوه يقيناً بل رفعه الله إليه".

فالقرآن ينفي الآثار المترتبة على الحدث، لا الحدث نفسه تاريخياً. فقد خُيِّل إليهم أنهم قتلوه، وما لهم به من علم إلا اتِّباعَ الظن، أي أن اليهود اختلفوا في قتله وإبادته نهائياً، لأنهم عرفوا بقيامته، وتأكد لديهم أنهم لم يقتلوه يقيناً، ولم ينتهِ ذكره بصلبه - لماذا؟ لأن الله رَفَعَه إليه، وكان الله عزيزاً حكيماً.

 

الفصل الثاني عشر: الجهل والأُميَّة

 

تعتمد مجادلات الإسلاميين وكتاباتهم في إثبات الوحي القرآني على أمّية محمد وجهله بقواعد القراءة والكتابة. فهل كان محمد أمياً بمعنى أنه لا يقرأ ولا يكتب؟ وما الأسباب التي دفعت المسلمين إلى الاعتقاد بأمية قائدهم؟

لا تجزم الشواهد التاريخية بالنفي أو الإيجاب في هذه القضية. فرغم أن مؤرخي السيرة المحمدية يؤكدون أمية محمد، وأنه لم يذهب لمعلم قط، ولم يتلقَّ تعليماً من بشر، إلا أن هناك شواهد ذكرها هؤلاء المؤرخون أنفسهم، تؤكد علم محمد بقواعد القراءة والكتابة.

هذا التناقض البيِّن في منقولات التاريخ دفع المعاصرين أن يعتقدوا أن محمداً لم يكن أمياً، أي جاهلاً بقواعد الكتابة طوال حياته، بل أنه تلقَّى العلم من الله عن طريق جبريل.

يقول الحافظ بن حجر: "كان النبي أمياً وذلك بسبب الإعجاز. ولما اشتهر الإسلام وأَمِنَ الارتياب عرف حينئذ الكتابة"!.

يقول ابن شيبه: "ما مات رسول الله (ص) حتى كتب وقرأ".

وقال الطبرسي: "فأما بعد النبوة فلا تعلق به الشك والتهمة، فيجوز أن يكون قد تعلم الكتابة".

إذاً هناك شواهد قاطعة بعلم محمد، لا بأميته، دفعت العلماء الإسلاميين أن يعتقدوا أنه تعلم بعد النبوة، ولكنهم لا يقفون على أرض صلبة، إذ لا يؤيدهم دليل قرآني ولا إقرار نبوي من فم محمد نفسه، وإنما هو اجتهادٌ منهم لتبرير ما رواه التاريخ من حوادث تنفي صفة الأمية عن محمد!

جاء في كتاب الرسم العثماني للدكتور محمد بن عبد الله عثمان "كان الرسول (ص) يضع الدستور لكتابة الوحي في رسم القرآن وكتابته، ومن ذلك قول لمعاوية: "إلق الدواة وحرف القلم، وانصب الباء وفرق السين ولا تعوّر الميم وحسِّن الله ومدّ الرحمن وجوِّد الرحيم، وضع قلمك على أذنك اليسرى فإنه أذكر لك"!.

فهذا اقتباس يوضح ضلاعته في فن الكتابة، يستشهد به العلماء بموافقة محمد لهجاء المصحف بما عليه من أخطاء إملائية. وهذا يؤكد أن ورود الأخطاء الإملائية في المصحف هو نتيجة مباشرة لقصر باع العرب القريشيين في فن الكتابة بمن فيهم محمد نفسه. فهل يقبل المسلمون أن نقول إن جبريل قد قصَّر في حقّ محمد عندما لم يُحسن تعليمه؟!

ومما ترويه كتب السيرة أن محمداً هو الذي كان يكتب كتاب صلح الحديبية بيده الشريفة. وجاء في سيرة ابن هشام: "وفينا رسول الله (ص) يكتب الكتاب هو وسهيل".

وجاء في البخاري: "وأخذ رسول الله (ص) الكتاب ليكتب فكتب هذا ما قاضى عليه محمد... . كما جاء في الطبري (ج3 -ص80) لما اشتد وجعه (في أيامه الأخيرة) قال: "ائتوني بالدواة والكتب، أكتب لكم كتاباً لا تضلوا معه بعدي أبداً".

وفي حديث أبي بكر أن رسول الله "دعا في مرضه بدواة ومزبر (أي قلم) فكتب اسم الخليفة بعده . أما الهمذاني في كتاب "الإكليل" فقد قال إن العرب كانت تسمي كل من قرأ الكتب أو كتب، صابئاً وكانت قريش تسمي النبي (ص) أيام كان يدعو الناس بمكة ويتلو القرآن صابئاً .

وقد يكون ما سبق من روايات مناقضاً لرواية تاريخية شهيرة، وهي كما يقول المؤرخون أول لقاء بين محمد وجبريل عندما سأله جبريل: إقرأ فأجاب ما أنا بقارئ .

فهذه الرواية تخالف ما قطعت به الروايات السابقة. قد يكون هذا صحيحاً، ولكن الطبري يروي الحادثة بما يتفق مع ما ذهبنا إليه، فيروي أن ابن الزبير يقول: "قال رسول الله (ص): فجاءني وأنا نائم نبي من ديباج فيه كتاب فقال: اقرأ. فقلت: ما أقرأ؟ فغطَّني حتى ظننت أنه الموت، ثم أرسلني فقال: إقرأ، فقلت: ماذا أقرأ؟ قال: اقرأ باسم ربك الذي خلق.. الخ .

ولنا أن نتساءل: وهل كان جبريل وربُّه - حسب الرواية الأولى - لا يعلمان بأمية محمد حتى يقول له جبريل: اقرأ، فينتظر إجابة محمد بنفي علمه بالقراءة؟! إن الأقرب إلى المنطق أن جبريل وهو رسول الله إلى محمد كان ينبغي عليه أن يهوّن من شدّة الأمر وهول الموقف، فيثبت له رسوليته عن طريق إخباره بأنه أمي (لو كان الأمر كذلك) وأنه يعلم عدم قدرته على القراءة والكتابة، ولذلك فسوف يعلّمه إياها.. هذا ما يقرّه العقل ويأبى غيره المنطق. أما ما عدا ذلك فهو استخفافٌ بالعقل وتحريفٌ للنقل أيضاً!!

وقد زُعِم أن هذه الشواهد كافية لدفع شبهة الأمية عن محمد، فلماذا يتمسك المسلمون بأمية محمد؟

كان قصد المسلمين في إثبات أمية محمد إقامة البرهان على معجزة القرآن ومصدره الإلهي، وبسبب هذه المعجزة حُكم على مكة أنها سقطت في الجهل والغباوة، وعمَّ الجهل والكفر عصر ما قبل الإسلام. وبسببها قلب الله نظام الكون فوضع الفصاحة على لسان أُمّي، ووضع العلم حيث الجهل والإيمان حيث الكفر!!

ولنا حق السؤال: هل يعلّي من شأن الدين أن يُبنى على بدائية البشر، ويفتخر بتعاليمه على بداوتهم؟ وهل لم يكن في مقدور الله أن يثبت فصاحة القرآن في قومٍ متحضّرين، ويجريه على لسان متعلم لا أمي دون أن يقدح ذلك في صُلب المعجزة وجوهرها؟

لم يكن الإسلاميون ليعتقدوا هذا لولا بعض آيات القرآن التي دلَّ ظاهرها على أمية محمد، وإن كان باطنها ينفي ذلك!

قوم موسى والنبي الأمي

يقول القرآن في سورة الأعراف 7: 156-158 في قصة موسى مع قومه: "وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الّزَكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعّزَرُوهُوَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِإِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ ا لْأُمِّيِّ ا لَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ" .

إن حديث القرآن عن النبي الأمي لا وجود له على الإطلاق إلا في هذا النص الوحيد، رغم أن الأسلوب القرآني فيه تكرار بأساليب مختلفة للترسيخ في أذهان السامعين، كما يقولون.

إن حديث النبي الأمي يناقض حديث موسى وخطابه لله في آية القرآن السابقة، فموسى وقومه في ميقاتهم أخذتهم الرَّجفة فأخذوا يصلون ويقولون: "واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة. إنَّا هُدْنا إليك" . كان اليهود يشتقّون اسمهم من الهدى، والهدى كناية موسى "وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى" (غافر 40: 53). ويشتقون الهدى من اسمهم فالتورية هُدْنَا بارعة، فموسى وقومه يطلبون من الله تسجيل يهوديتهم حسنةً لهم، فيجيبهم الله بقوله أولاً: بأن الحسنة لأهل التُّقى والزكاة والإيمان، هذه الحسنة ستُكتب للذين يتبعون النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل! فما على موسى وقومه إلا أن ينتظروا نحو ألفي سنة حتى تقوم لهم حسنة بالإيمان بمحمد! فهل من المعقول أن يجيب الله دعاء موسى وقومه لربهم بأن الهداية ليست في الموسوية بل في اتِّباع محمد النبي الأمي الذي لم يجئ بعد؟!

وهل يقول الله في ردّه على صلاة موسى إن محمداً مكتوب في التوراة والإنجيل! وأين كان الإنجيل في زمن موسى حتى يحدِّث الله عنه موسى وقومه؟

 

معنى الأمية في القرآن

إن كلمة الأمي الواردة في النص لا تعني، بحسب القرآن نفسه، عدم الإلمام بالقراءة والكتابة، إنما تعني من ليس له كتابٌ منزَل، فاليهود وأتباع إسحاق بن إبراهيم هم كتابيون في حين أن العرب وأتباع إسماعيل بن إبراهيم هم أميون. ودل القرآن على هذا التمييز دلالة واضحة وصريحة: فهو يدعو الكتابيين والأميين إلى اتِّباع الإسلام.

"وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأُمّيِينَ أَأَسْلَمْتُمْ؟" (آل عمران 3: 20). وهو يشير إلى تمنّي الأميين لمعرفة الكتاب وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ (البقرة 2: 78). ويفخر بأن بعث الله رسولاً من غير الكتابيين، فيقول: "هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ" (الجمعة 62: 2). وقد عرف أهل الكتاب أن التمييز بينهم وبين الأميين شيء محتوم.

قالوا: "لَيْسَ عَلَيْنَا فِي ا لْأُمِيِّينَ سَبِيلٌ" (آل عمران 3: 75).

بهذا المعنى القرآني الصحيح يجب أن نفهم قول القرآن عن أمية محمد، فالأميون هم العرب أبناء إسماعيل، والكتابيون هم اليهود أبناء إسحاق، وبالتالي فإن أمية محمد لا تعني جهله بالقراءة والكتابة بقدر ما تعني انتماءه إلى العرب الأميين أبناء إسماعيل، الذين ليس لهم من الله كتاب منزل. يقول الشهرستاني: "كان أهل الكتاب ينصرون دين الأسباط، ويذهبون مذهب بني إسرائيل. وكان الأميون ينصرون دين القبائل، ويذهبون مذهب بني إسماعيل".

 

الفصل الثالث عشر: الحرب والقتال

عند النظر في بواعث وأسباب القتال في المعتقد الإسلامي نجد مختلف الاتجاهات والميول، ولا يمكننا بأي حال من الأحوال أن نعود بها في جملتها إلى رجاء وجه الله فبواعث الجهاد لم تكن يوماً خالصة لوجه الله كما يتصور ذلك ويصوّره كُتّاب هذا الدين، حتى في عصر صحابة محمد، ولا في عهد محمد نفسه! ومرجعنا في ذلك القرآن نفسه، فهو يصور لنا جانباً من هذه البواعث التي تكذِّب ما ادّعاه بعض منظِّري الحركة الإسلامية.

فقد جاء في القرآن في سورة آل عمران: أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ! (آل عمران 3: 165).

وجاء فيها، تعقيباً على أحداث غزوة أُحُد: "مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ" (آل عمران 3: 152). فقد جاءت هذه الآيات في حقّ المسلمين المشاركين في غزوة أحد التي هُزم فيها المسلمون، لتناقش أسباب الهزيمة، فقد حاربوا وهُزموا لأنهم كانوا يريدون الدنيا قل: هو من عند أنفسكم . ويصوِّر القرآن حالة الجشع التي كانت تنتاب المسلمين عند خروجهم للقتال، فيقول القرآن: وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ" (النساء 4: 94).

ويفرض الإسلام ثلاثة بدائل على غير المسلمين، له حرية اختيار أحدها:

الدخول في الإسلام ولهم مالنا وعليهم ما علينا .

دفع الجزية حتى يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون (التوبة 9: 29).

الحرب والقتال.

غير أن المسلمين لم يكونوا راضين بدخول الأمم الإسلام دون حرب، لأن في ذلك حرماناً لهم من غنيمة الحرب التي شُرِّعت لهم وأحلَّها القرآن. فعندما حاربوا إحدى القبائل اليهودية، أعلنت إسلامها خوفاً من الدمار والخراب على يد المسلمين، فلم يقبل المسلمون إسلام هذه القبيلة وقاتلوها. فلما شاعت هذه الرواية وتحدث الناس بما فعله المسلمون أراد القرآن أن يحفظ ماء وجه أتباعه، فعاتبهم عتاب المدلِّل ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لستَ مؤمناً.

فالغنائم التي كانت ثمار الحرب والقتال كانت من أهم بواعث خروجهم من مكَّتهم ومدينتهم شاهرين سيوفهم في وجه الجميع!

ويضع القرآن أيدينا على أهم البواعث التي من أجلها يخرج المسلم مقاتلاً، ألا وهي نشر كلمة الله، فعلى حد السيف وبالسيف يُنشر القرآن، وهو وسيلة معتمدة شرعية في نشر كلماته وآياته بل "إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ" (التوبة 111:9).

وعند قضية بواعث الحرب والقتال في الإسلام نجد رأيين هما:

لا قتال إلا للدفاع عن الأرض والوطن والعرض والدين، ويؤمن بهذا الرأي عدد من علماء الدين الإسلامي، وهم قلَّة مرفوضة لمخالفتها لنصوص القرآن القاطعة.

القتال، لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى (التوبة 9: 40) وهو رأي تتبنّاه كل فصائل التيار الإسلامي، بعد أن وضع عملاق الفكر الحركي السيد قطب مؤلفاته كلها لشرح قضية الحاكمية وهي قضية وثيقة الصلة بموضوع الجهاد في الإسلام. ويرى السيد قطب أن المهزومين روحياً وعقلياً ممن يكتبون عن الجهاد في الإسلام ليدفعوا عن الإسلام تهمة أنه انتشر بالسيف، يخلطون بين منهج القوة في شرعيّة الجهاد وبين النص على استنكار الإكراه في العقيدة، وهما أمران لا علاقة بينهما. ومن أجل هذا الخلط يحاولون أن يحصروا الجهاد في الإسلام فيما يسمُّونه اليوم الحرب الدفاعية. (من كتاب معالم في الطريق لسيد قطب).

والجهاد في الإسلام أمر لا علاقة له بحروب الناس ولا ببواعثها. إن بواعث الجهاد تنبع من أن هذا الدين إعلان عام لتحرير الإنسان من العبودية للبشر، وردّه إلى عبودية الله وحده. ومن ثمَّ لم يكن بدٌّ للإسلام أن ينطلق في الأرض لإزالة الواقع المخالف لذلك الإعلان العام بالبيان والحجة والمنطق فقط، بل عليه أن يوجّه الضربات للقُوى السياسية التي تُعبِّد الناس لغير الله، أي تَحْكمهم بغير شريعة الله وسلطانه.

فالإسلام لا يُكرِه الناس على اعتناق عقيدته، ولكنه ليس مجرد عقيدة. إن الإسلام إعلان عام لتحرير الإنسان من العبودية للعباد، فهو يهدف ابتداءً إلى إزالة الأنظمة والحكومات التي تقوم على أساس حاكمية البشر للبشر، وعبودية الإنسان للإنسان، ثم يطلق الأفراد بعد ذلك أحراراً في اختيار العقيدة التي يريدونها. إن المد الإسلامي ليس في حاجة إلى مبررات أدبية له أكثر من المبررات التي حملتها النصوص القرآنية "قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ" (التوبة 29:9). وتقوم في وجه الانطلاق بالمذهب الإلهي عقبات مادية من سلطة الدولة ونظام المجتمع وأوضاع البيئة، وهذه كلها هي التي ينطلق الإسلام ليحطمها بالقوة ليخلو له وجه الأفراد من الناس، يخاطب ضمائرهم وأفكارهم بعد أن يحررها من الأغلال المادية، ويترك لها بعد ذلك حرية الاختيار. (سيد قطب ـ مرجع سابق)

 

والخلاصة:

إن أهم المبررات التي تسوقها الحركة الإسلامية لإعلان القتال هو اعتقادهم بأنهم أوصياء على العالمين، وأنهم مطالبون برفع الظلم الواقع على البشر على مختلف أنواعه. وأشد أنواع الظلم كما يرونه هو خضوع الإنسان للأنظمة والقوانين الوضعية، إذ أن انتزاع حق الله وإعطاءه لبشرٍ مخلوق هو ظلمٌ للمحكومين، لأنهم بخضوعهم للقوانين البشرية يؤلّهون إنساً ويعبدونه من دون الله، فالقتال واجب لرفع هذا الظلم وإقامة العدل المتمثِّل في شرع الله المنزَل في القرآن. وعلى ذلك فالقتال هو القاعدة، والسلم هو الاستثناء، لأن العالم لا يمكن أن يخلو من قوانين بشرية.

 

 

الفصل الرابع عشر: اليوم الآخِر

الإيمان باليوم الآخِر أحد ستة معتقدات أساسية ينبغي على المسلم الإيمان بها، هي: الله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقضاء والقدر...

جاء في الحديث الصحيح الذي أورده "ابن حجر العسقلاني" في كتابه "جامع العلوم والحكم" في الحوار الذي دار بين جبريل ومحمد عندما جاء جبريل متنكراً في شكل أعرابي يسأل عن فرائض الإسلام والإيمان ليعلّم المسلمين أمور دينهم:

قال: فأخبِرني عن الإيمان. قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره .

"الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَاأُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلكَِ وَبِالَآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ" (البقرة 2: 3، 4).

والعقيدة باليوم الآخِر هي الوحيدة التي حازت النصيب الأوفر من الأحاديث والمرويّات غير المعتمدة، أو حسب تعييرهم الأحاديث الموضوعة . فقد أُحيط اليوم الآخر في الإسلام بسياجٍ سميك من الخرافات والأوهام جعله عقيدة نشازاً عن مثيلتها في معتقدات الأديان الأخرى.

فالجنة كما يعتقدون في السماء السابعة، أما النار ففي الأرض السابعة!!

وجاء أيضاً أن جهنم تسكن تحت البحر! وجهنم لا تزال تطالب بالمزيد حتى يضع الله قدمه فيها فينزوي بعضها إلى بعض وتقول: قط، قط. بعزتك وكرمك! أما القمر والشمس فسوف يُلقون في جهنم لأنهما عُبدا من دون الله!

والنار تشكو إلى الله لأن بعضها يأكل بعضها، فيستجيب الله لشكواها فيجعل لها نَفَسين نفساً في الشتاء وآخر في الصيف!

ويخرج عنقٌ من النار له عينان تبصران ولسان ينطق، يقول: "وكلت بمن جعل مع الله إلهاً آخر!" ويزول وجه الغرابة إن عرفنا أن الأحاديث التي روت هذه الخرافات كانت في مجملها أحاديث موضوعة، أو ضعيفة الإسناد، غير أن هذه الغرابة لا تلبث أن تعود عندما نذكر عدداً من الأحاديث في كتب الصحاح، والتي يعتقد المسلمون أنها أحاديث صحيحة المتن والسند، ولا يقل مضمونها الغريب الشاذ عن الأحاديث التي ذكرناها إن لم تكن أكثر غرابة، منها:

جاء في كتاب "التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة" (للإمام القرطبي) ما نصه ص 789:

"خرَّج ابن ماجة حديث فاطمة بنت قيس: قال: صعد رسول الله المنبر، وكان لا يصعد عليه مثل ذلك اليوم إلا يوم الجمعة. فاشتدَّ ذلك على الناس، فمن بين قائم وجالس، فأشار إليهم بيده أن اقعدوا، فوالله ما قمتُ مقامي إلا لأمرٍ ينفعكم، لا رغبةً ولا رهبة ولكن. تميم الدري أتاني فأخبرني خبراً منعني القيلولة من الفرح وقُرة العين، فأحببت أن أنشر عليكم فرح نبيّكم إلا أن ابن عمٍ لتميم الدري أخبرني أن الريح ألجأتهم إلى جزيرة لا يعرفونها، فقعدوا في قوارب السفينة فخرجوا بها، فإذا هم بشيء أهدب أسود كثير الشعر. قالوا لها: ما أنت؟! قالت: أنا الجسَّاسة.. قالوا: أخبرينا. قالت: ما أنا مخبرتكم شيئاً ولا سائلتكم. وليكن هذا الدير قد رهقتموه فائتوه، فإن فيه رجلاً بالأشواق إلى أن تخبروه ويخبركم. فأتوه فدخلوه عليه. فإذا هم بشيخٍ موثق شديد الوثاق، مُظهر الحزن شديد التشكي، قال لهم: من أين؟ فقالوا: من الشام. فقال: ما فعلت العرب؟ قالوا: نحن قوم من العرب، عمَّ تسأل؟ قال: ما فعل الرجل الذي خرج فيكم؟ قالوا: خيراً، أتى قوماً فأظهره الله عليهم. فأَمْرهم اليوم واحد. إلههم واحد ودينهم واحد ونبيّهم واحد. قال: ما فعلت عين زغر؟ قالوا: خيراً، يسقون منها لزروعهم ويستقون منها لشعبهم. قال: ما فعل نخل بين عمان وبيسان؟ قالوا: يطعم ثمره كل عام. قال ما فعلت بحيرة الطبرية؟ قالوا: تدفق بجنباتها من كثرة الماء. قال: فزفر ثلاث زفرات ثم قال: لو انفلتُّ من وثاقي هذ لم أدع أرضاً إلا وطئتها برجليَّ هاتين إلا طيبة ليس لي عليها سبيل.

قال النبي (ص) إلى هذا انتهى وحيي هذه طيبة. والذي نفسي بيده ما فيها طريق ضيق ولا واسع ولا سهل ولا جبل إلا وعليه مَلَك شاهرٌ سيفه إلى يوم القيامة".

ثم يعلّق الإمام القرطبي على هذا الحديث بقوله: هذا حديثٌ صحيح، وقد خرَّجه مسلم، والترمذي، وأبو داود وغيرهم رضي الله عنهم !

فبالرغم من صحة هذا الحديث سنداً ومَتْناً، إلا أنه لا يخلو من الغرائب التي قد لا نجد نظائرها إلا في أحاديث العجائز! فالحديث يقر حديث الدابة الجسَّاسة للصحابة بلغةٍ يفهمونها، ثم مقابلة هؤلاء الصحابة للمسيح الدجال الموثق بالسلاسل في أحد الكهوف إلى أن تقوم الساعة!

 

مصادر المفهوم الإسلامي لليوم الآخر

للعقل البشري الميّال إلى الجنوح للأساطير والخيال دور بارز في تشكيل المفهوم الإسلامي لعقيدة اليوم الآخر، إلا أن هناك مصادر أخرى لهذا المفهوم، منها النقل المباشر من الكتاب المقدس:

ففي وصف القرآن لأهوال القيامة يقول: إنه في هذا اليوم يحدث برق ورعد ومخاوف عظيمة، ويُنقر في الناقور ويُنفخ في الصُّور، وتُسمع صيحة في كل مكان تهتز بها الأرض وترتجف فرائض البشر وتخشع لها أبصارهم. فيه تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا" (الحج 22: 2). يَجْعَلُ ا لْوِلْدَانَ شِيباً (المزمل 73: 17) وفيه "يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِىءٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ" (عبس 80: 34-37). وفيه أيضاً: "لاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً" (المعارج 70: 10) "ويَوْماً لاَ يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئاً" (لقمان 31: 33". "ويَوْمَ لاَ يُغْنِي مَوْلىً عَنْ مَوْلىً شَيْئاً" (الدخان 44: 41). أنه يوم لاَ تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (البقرة 2: 123).

 

ويصّور الإنجيل هذا اليوم، فيقول المسيح:

"وَمَتَى جَاءَ ابْنُ الْإِنْسَانِ فِي مَجْدِهِ وَجَمِيعُ الْمَلَائِكَةِ الْقِدِّيسِينَ مَعَهُ، فَحِينَئِذٍ يَجْلِسُ عَلَى كُرْسِيِّ مَجْدِهِ. وَيَجْتَمِعُ أَمَامَهُ جَمِيعُ الشُّعُوبِ، فَيُمَيِّزُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ كَمَا يُمَيِّزُ الرَّاعِي الْخِرَافَ مِنَ الْجِدَاءِ، فَيُقِيمُ الْخِرَافَ عَنْ يَمِينِهِ وَالْجِدَاءَ عَنِ الْيَسَارِ. ثُمَّ يَقُولُ الْمَلِكُ لِلَّذِينَ عَنْ يَمِينِهِ: تَعَالَوْا يَا مُبَارَكِي أَبِي، رِثُوا ا لْمَلَكُوتَ الْمُعَدَّ لَكُمْ مُنْذُ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ. لِأَنِّي جُعْتُ فَأَطْعَمْتُمُونِي. عَطِشْتُ فَسَقَيْتُمُونِي. كُنْتُ غَرِيباً فَآوَيْتُمُونِي. عُرْيَاناً فَكَسَوْتُمُونِي. مَرِيضاً فَزُرْتُمُونِي. مَحْبُوساً فَأَتَيْتُمْ إِلَيَّ. فَيُجِيبُهُ الْأَبْرَارُ حِينَئِذٍ: يَا رَبُّ، مَتَى رَأَيْنَاكَ جَائِعاً فَأَطْعَمْنَاكَ، أَوْ عَطْشَاناً فَسَقَيْنَاكَ؟ وَمَتَى رَأَيْنَاكَ غَرِيباً فَآوَيْنَاكَ، أَوْ عُرْيَاناً فَكَسَوْنَاكَ؟ وَمَتَى رَأَيْنَاكَ مَرِيضاً أَوْ مَحْبُوساً فَأَتَيْنَا إِلَيْكَ؟ فَيُجِيبُ الْمَلِكُ: الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: بِمَا أَنَّكُمْ فَعَلْتُمُوهُ بِأَحَدِ إِخْوَتِي هؤُلَاءِ الْأَصَاغِرِ، فَبِي فَعَلْتُمْ. ثُمَّ يَقُولُ أَيْضاً لِلَّذِينَ عَنِ الْيَسَارِ: اذْهَبُوا عَنِّي يَا مَلَاعِينُ إِلَى النَّارِ الْأَبَدِيَّةِ الْمُعَدَّةِ لِإِبْلِيسَ وَمَلَائِكَتِهِ، لِأَنِّي جُعْتُ فَلَمْ تُطْعِمُونِي. عَطِشْتُ فَلَمْ تَسْقُونِي. كُنْتُ غَرِيباً فَلَمْ تَأْوُونِي. عُرْيَاناً فَلَمْ تَكْسُونِي. مَرِيضاً وَمَحْبُوساً فَلَمْ تَزُورُونِي. حِينَئِذٍ يُجِيبُونَهُ هُمْ أَيْضاً: يَارَبُّ مَتَى رَأَيْنَاكَ جَائِعاً أَوْ عَطْشَاناً أَوْ غَرِيباً أَوْ عُرْيَاناً أَوْ مَرِيضاً أَوْ مَحْبُوساً وَلَمْ نَخْدِمْكَ؟ فَيُجِيبُهُمْ: الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: بِمَا أَنَّكُمْ لَمْ تَفْعَلُوهُ بِأَحَدِ هؤُلَاءِ الْأَصَاغِرِ فَبِي لَمْ تَفْعَلُوا. فَيَمْضِي هؤُلَاءِ إِلَى عَذَابٍ أَبَدِيٍّ وَالْأَبْرَارُ إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ" (متى 25: 31-46).

وفي يوم القيامة - كما يصوِّره القرآن - يحضر الناس أمام الله أشتاتاً ليروا أعمالهم ويكون الفصل بين الأبرار أصحاب اليمين والأشرار أصحاب الشمال وتُكشف الأعمال والخفيات بحسب كتاب الأعمال، لأن لكل إنسان كتاباً خاصاً تُدّوَن فيه أعماله.

 

ويقول الإنجيل في ذلك:

"ثُمَّ رَأَيْتُ عَرْشاً عَظِيماً أَبْيَضَ، وَالْجَالِسَ عَلَيْهِ الَّذِي مِنْ وَجْهِهِ هَرَبَتِ الْأَرْضُ وَالسَّمَاءُ، وَلَمْ يُوجَدْ لَهُمَا مَوْضِعٌ! وَرَأَيْتُ الْأَمْوَاتَ صِغَاراً وَكِبَاراً وَاقِفِينَ أَمَامَ اللّهِ، وَانْفَتَحَتْ أَسْفَارٌ. وَانْفَتَحَ سِفْرٌ آخَرُ هُوَ سِفْرُ الْحَيَاةِ، وَدِينَ الْأَمْوَاتُ مِمَّا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي الْأَسْفَارِ بِحَسَبِ أَعْمَالِهِمْ. وَسَلَّمَ الْبَحْرُ الْأَمْوَاتَ الَّذِينَ فِيهِ، وَسَلَّمَ الْمَوْتُ وَالْهَاوِيَةُ الْأَمْوَاتَ الَّذِينَ فِيهِمَا. وَدِينُوا كُلُّ وَاحِدٍ بِحَسَبِ أَعْمَالِهِ. وَطُرِحَ الْمَوْتُ وَالْهَاوِيَةُ فِي بُحَيْرَةِ النَّارِ. هذَا هُوَ الْمَوْتُ الثَّانِي. وَكُلُّ مَنْ لَمْ يُوجَدْ مَكْتُوباً فِي سِفْرِ الْحَيَاةِ طُرِحَ فِي بُحَيْرَةِ النَّارِ" (رؤيا 20: 11-15).

ويضيف د. سنكلير تسدل في كتابه مصادر الإسلام مصدراً آخر من مصادر المفهوم الإسلامي لليوم الآخِر، فيقرر أن ما في القرآن والأحاديث بخصوص الجنة وحور العين والغلمان والجن وملك الموت وذرات الكائنات، هو نقل حرفي من كتب الزردشتية القدماء: فمثلاً ما قاله عن الحور في سورة "الرحمن حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي ا لْخِيَام" (سورة الرحمان 55: 72). وفي سورة الواقعة "وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ ا للُّؤْلُؤِ ا لْمَكْنُونِ" (سورة الواقعة 56: 22، 23). هو لا شك مأخوذ مما قاله الزردشتية القدماء عن بعض أرواح غادات إسمهن ميركان ويسميها الفرس المتأخرون بريان لأن الزردشتية زعموا أن أرواح هذه الغادات سكنت في الهواء، ولها علاقة بالكواكب والنور. وكان جمال أرواح هاته الغادات رائعاً حتى خُلبت قلوب الرجال .

ويشير د. سنكلير إلى أن المسلمين يعتقدون أنه بعد دينونة يوم الدين يُؤمر جميع الناس بالمرور على الصراط، وهو شيء ممدود على متن جهنم بينها وبين الجنة، يمشي عليه المؤمنون فيصلونه إلى النعيم، ويتعثّر عليه الكافرون فيسقطون في الجحيم، ويعقب د. سنكلير قائلاً: فمن أراد معرفة منشأ هذا القول وجب عليه أولاً أن ينظر في اشتقاق كلمة صراط لأن أصلها ليس من اللغة العربية، فهي معرَّبة وأصلها فارسي.

أهل الكتاب كما صوَّرهم القرآن في اليوم الآخر

عند النظر في آي القرآن ينبغي أن نفرق بين مرحلتين من مراحل نزول القرآن هما: المرحلة المكية، والمرحلة المدنية. فالفارق البيّن الواضح بينهما في استراتيجيات الدعوة يجعلنا نقول إن الدعوة الإسلامية قد انتقلت نقلة كبيرة بعد الهجرة إلى المدينة، وتحوَّلت الفكرة الإسلامية تحولاً خطيراً. حتى جاز لنا القول إن إسلام مكة ليس هو إسلام المدينة، وإن كفَّار مكة ليسوا هم كفَّار المدينة، وإن أولياء مكة ليسوا أولياء المدينة. فمن يواليه المسلم في مكة أصبح يعاديه في المدينة، ومن عاداه في مكة أصبح أشدَّ عداوةً له في المدينة.

وكذا الحال في مفهوم اليوم الآخِر في القرآن: فالهالكون في جهنم حسب نص القرآن المكي ليسوا هم هالكي جنهم في القرآن المدني! فالكفّار المشركون عَبَدة الأصنام والأوثان هم هالكو جهنم في مكة، وهم محط اللعنات القرآنية طوال أكثر من ثلاثة عشر عاماً في مكة، بينما أهل الكتاب هم المسلمون الذين أُمر محمد أن يكون معهم من المسلمين، وهم الذين قال فيهم القرآن: "أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ" (الأنعام 6: 90).

أما أهل الكتاب في المدينة فهم الذين حرفوا الكتاب ليّاً بألسنتهم، وهم الذين أخفوا نعت محمد واسمه من كتابهم، وهم عباد الثالوث الذين ألَّهوا المسيح وأمه واتخذوهما إلهين من دون الله، فاستحقوا جهنم خالدين فيها أبداً!

إن من يقرأ القرآن يدرك أنه لم ترد آية واحدة طوال أكثر فترات العهد المكي تنذر أهل الكتاب بالعذاب الأليم في جهنم، بل إن آيات التبشير بالعذاب كانت موجَّهة في جملتها إلى المشركين من قريش وما حولها، الذين صدّوا عن سبيل الله، والذين استكبروا ورفضوا دعوة المساواة التي أطلقها الإسلام بين الطبقات. لكن الأمر يختلف اختلافاً كبيراً عندما نقرأ ما نزل من القرآن في المدينة، فهي لا تفرق بين مسيحيين ومسلمين لله، لا يشركون به إلهاً آخر، مسيحيين يقرّون له بالوحدانية وبين آخرين ضالين اتّخذوا من المسيح وأمه إلهين، أو الذين اتّخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله!!

وإذا أردنا التدليل على ما سبق ذكره من تناقض الموقف القرآني تجاه أهل الكتاب نقول:

لقد سألت خديجة - وهي زوجة محمد طوال العهد المكي - محمداً عن مصير أولاد المشركين، بما فيهم أهل الكتاب، فقال: "وَلَا تَزِرُ وَازِرةٌ وِزْرَ أُخْرَى"(الأنعام 6: 164) هم على القنطرة وفي رواية أخرى هم في الجنة .

وقد روى أبان عن أنس قال: سُئل رسول الله )ص( عن أولاد المشركين فقال: "لم يكن لهم حسنات فيجزوا بها فيكونوا من ملوك الجنة". ولم يكن لهم سيئات فيُعاقبون عليها فيكونوا من أهل النار فهم خدمٌ لأهل الجنة.

هذا الموقف الصريح من أولاد المشركين وأهل الكتاب، نراه يختفي ويتغير إلى موقف آخر يتبناه القرآن تجاه الكفَّار بما فيهم أهل الكتاب وأولادهم، فقد سألت عائشة زوج محمد في العهد المدني محمداً عن ذراري غير المسلمين فقال: هم مع آبائهم قالت: بلا عمل؟! قال: الله أعلم بما كانوا عاملين، والذي نفسي بيده لئن شئتِ أسمعتكِ تضاغيهم في النار .

ففي مكة أولاد أهل الكتاب في الجنة خدام لنزلائها، ولكن بعد أن اتخذ الإسلام موقفاً مستقلاً من مصدره الأول، بل موقفاً معادياً من هذا المصدر الذي ظل يمدّه بالعقائد والتشريعات طوال أكثر من ثلاثة عشر عاماً، كانت النتيجة إلقاء هؤلاء الأطفال في الجحيم، بلا ذنب سوى أنهم جاءوا من صلب كتابيين!

 

المسيح في اليوم الآخِر

لم يتفرَّد المسيح -كما صّوَره القرآن - في حمله وولادته وطفولته ومعجزاته وموته ورفعه على سائر الأنبياء والمرسلين فحسب، بل إن القرآن خصَّه بأُخرَيات لم تُنسَب لنبيٍّ قط، حتى قال فيه وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ (الزخرف 43: 61). أي إن نزوله إلى الحياة الدنيؤؤا مرة أخرى نذير بقيام الساعة.

ونقرأ في كتب الصحاح المعتمدة (أمثال البخاري ومسلم) أبواباً ذكرت عشرات الأحاديث الموصولة السند عن نزول المسيح ابن مريم، وأعطته مكانة لم تُعط لنبي من الأنبياء.

- فقد رُوي عن محمد يكون عيسى عليه السلام في أمتي حكماً عدلاً وإماماً مقسطاً.. .

- وروي أيضاً عنه ليدركن المسيح ابن مريم رجالاً من أمتي مثلكم أو خيراً منكم .

- وفي الحديث أيضاً: ينزل عيسى ابن مريم فيتزوج ويولد له ولد، ويمكث خمساً وأربعين سنة ويُدفن معي في قبري فأقوم أنا وعيسى من قبرٍ واحدٍ بين أبي بكر وعمر .

ويُقال: إنه يتزوج امرأة من العرب بعد ما يقتل الدجال، وتلد له بنتاً فتموت، ثم يموت هو بعد ما يعيش سنتين وفي الحديث الذي رواه أبو هريرة عن محمد: يمكث عيسى في الأرض بعد ما ينزل أربعين سنة ثم يموت ويصلي عليه المسلمون ويدفنونه. وروي أيضاً في الحديث الصحيح الأنبياء إخوة أمهاتهم شتى ودينهم واحد، وأنا أَوْلى الناس بعيسى ابن مريم، لأنه لم يكن بيني وبينه نبي، فإذا رأيتموه فاعرفوه، فإنه رجل مربوع إلى الحمرة والبياض، كأن رأسه تقطر ولم يصبه بلل.

وقال كعب الأحبار: "إن عيسى عليه السلام يمكث في الأرض أربعين سنة ويكثر الخير على يديه حتى أن الحي ليعبر بالميت فيقول: قم فانظر ما أنزله الله من البركة. وأن عيسى عليه السلام يتزوج بامرأة من آل فلان ويُرزق منها ولدين فيسمي أحدهما محمد والآخر موسى، ويكون الناس معه على خير وفي خير زمان وذلك أربعين سنة، ثم يقبض الله روح عيسى ويذوق الموت ويُدفن إلى جانب النبي" (من كتاب يقظة أولي الاعتبار للعلاّمة الأصولي صديق حسن خان).

ولكن ما الحكمة التي يراها المسلمون في نزول المسيح في ذلك الوقت دون غيره من الأنبياء؟

أجاب على هذا السؤال الإمام القرطبي في كتابه التذكرة يقول في ص 764: يحتمل أن المسيح قد وجد في الإنجيل فضل أمة محمد (ص) فدعا الله عز وجل أن يجعله من أمة محمد (ص) فاستجاب الله تعالى دعاءه ورفعه إلى السماء إلى أن يُنزله آخر الزمان مجدداً لما درس من دين الإسلام، فوافق خروج الدجّال فقتله.

ويحتمل أن يكون إنزاله مدة لدنّو أجله لا لقتال الدجّال، لأنه لا ينبغي لمخلوقٍ من التراب أن يموت في السماء، لكن أمره يجري على ما قال الله تعالى: مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (طه 20: 55). فينزله الله تعالى ليقبره في الأرض مدة يراه فيها من يقرب منه ويسمع به من نأى عنه، ثم يقبضه فيتولى المؤمنون أمره ويصلّون عليه ويُدفن حيث دُفن الأنبياء.

ويُحتمَل أن يكون ذلك لأن اليهود همَّت بقتله وصلبه، وجرى أمرهم معه على ما بيَّنه الله تعالى في كتابه، وهم أبداً يدَّعون أنهم قتلوه، وينسبونه في السحر وغيره إلى ما كان الله يراه ونّزَهه منه. ولا يزالون في ضلالهم هذا حتى تقرب الساعة، فيظهر الدجَّال وهو أسحر السحرة، ويبايعه اليهود فيكونون يومئذ جنده مقدرين أنهم ينتقمون به من المسلمين. فإذا صار أمرهم إلى هذا أنزله الله الذي عندهم أنهم قد قتلوه، وأبرزه لهم ولغيرهم من المنافقين حياً، ونصره على الدجّال ومَن معه مِن اليهود، فلا يجدون يؤمئذ مهرباً. وإن توارى أحدٌ منهم بشجر أو حجر أو جدارٍ ناداه: يا روح الله، ها هنا يهودي حتى يقف عليه فإما يسلم أو يُقتل .

وهذه كلها احتمالات قدَّمها الإمام القرطبي، وإن شئت قلت إنها رصيد جديد من الأقوال الظنِّية والاجتهادات الفرديّة التي لا سند لها سوى النصوص المبهَمة من القرآن والسنّة التي تناولت حياة السيد المسيح في حمله وولادته وصلبه وقيامته ونزوله آخر الزمان.

 

 

الفصل الخامس عشر: إلهٌ ابن إله

 

قلتُ لمحدِّثي: "إن عناصر الجذب في المسيحية كثيرة ومتعددة، وكفيلة بإقناع من كان الحقُّ ضالته المنشودة، فحسبه من عقائدها الراسخة عقيدة القيامة، ومن مبادئها السامية المحبة، ومن بين ثمراتها التي يقطفها أبناؤها الخلاص الأبدي. إني لا أغضّ الطرف عن تلك العقبات التي اعترضت طريق إيماني بها، ولا أقلل منها. ولكن الحق أقول لك إن صعوبة تلك العقبات لا ترجع لاستحالة بَرْهنة صِدقِها بقدر ما يعود لتلك التعاليم التي رضعناها مع لبن الأم، والتي خلقت لدينا حسّاً رافضاً لفكرة ألوهية مخلِّصنا يسوع المسيح! ولذا فإن هذه العقيدة صعبة معقّدة كلما تناولتها ألسنةٌ هذا موقفها، ولكنها سَهْلة ليِّنة مُقنعة سَلِسة واضحة، قوية الحُجة منطقية البرهان، كلما طالعتَها في كتابها.

إن أبسط قواعد العدل في الجدل والحوار أن تسمع ما يقوله محاورك، لا أن تسدّ أذنك ولا تسمع إلا صوتك أنت. ولقد كان صوت الكتاب المقدس قوياً في مناقشة هذه القضية، بسطها صاحبه بَسْطاً يأخذ اللبّ ويخترق القلب".

يقول مرقس في مستهل إنجيله: بعد ما أُلقي يوحنا في السجن أتى يسوع إلى الجليل وهو يكرز بإنجيل ملكوت الله، ويقول: لقد تمَّ الزمان واقترب ملكوت الله، فتوبوا وآمنوا بالإنجيل . يُعبّر هذا القول عن المضمون الأساسي لرسالة المسيح، ألا وهو قرب مجيء ملكوت الله. ومع

ملكوت الله وسيادته على العالم كان اليهود ينتظرون أن ينتشر السلام بين الأفراد والجماعات والشعوب، وتسود العدالة علاقات الناس، ويحظى الفقراء بالحماية والمساندة. فمنذ أقدم العصور يتوق البشر إلى السلام والعدالة والحياة الفضلى والخلاص، لكنهم لا يستطيعون بلوغ تلك القِيم فيعتقدون بوجود قُوَى معادية تمنعهم من ذلك، يدعوها الكتاب الشياطين.

في نظر الكتاب المقدس الله وحده سيد الحياة والتاريخ، وهو وحده يستطيع أن يسحق جميع القُوَى الشريرة المعادية للإنسان، ويمنح الإنسان الخلاص والحرية والحياة هذا هو مضمون ملكوت الله الذي به بدأ المسيح رسالته بالتبشير به.

ويروي إنجيل متى أنه قُدِّم إلى يسوع مجنون أعمى وأخرس فشفاه، حتى أن الأخرس تكلم وأبصر. فبُهت الجموع كلهم وقالوا: "أفلا يكون هذا ابن داود؟" وسمع الفريسيون فقالوا: "هذا الرجل لا يُخرِج الشياطين إلا ببعلزبول رئيس الشياطين". وإذ أدرك يسوع أفكارهم قال لهم: "كل مملكة تنقسم على ذاتها تخرب، وكل مدينة أو بيت ينقسم على نفسه لا يثبت. فإن كان الشيطان يُخرِج الشيطان فقد انقسم على نفسه. فكيف إذاً تثبت مملكته؟ وإن كنتُ أنا بروح الله أُخرِج الشياطين، فذلك لأن ملكوت الله قد انتهى إليكم. وهل يستطيع أحدٌ أن يدخل بيت القوي وينهب أمتعته إن لم يربط القوي أولاً؟ عندئذ فقط ينهب بيته. إذاً ملكوت الله قد انتهى إليكم" (متى 12: 22-29).

إن المسيح يعلن نفسه مرسَل الله وممثله ووكيله في تحقيق الملكوت. والشعب الذي يختاره يصبح شعب الله، وكل من يقبل ا تِّباع المسيح والانضمام إلى شعب الله يحصل على المصالحة والمسامحة والسلام والخلاص والحرية التي يذخرها الله للذين يخضعون لملكه.

إن جميع أعمال يسوع من شفاء المرضى ومسامحة الخطايا وطرد الشياطين يدعوها الإنجيل آيات أي علامات تشير إلى بدء تحقيق الملكوت. فهي تدل على أن الله قريبٌ مِن الإنسان بمحبته، وقريب من كل إنسان، ولا سيما الفقراء والضعفاء والمرذولين والخطاة. وهذا هو معنى جواب يسوع عندما أرسل إليه يوحنا المعمدان بعضاً من تلاميذه يسألونه: أَنْتَ هُوَ الْآتِي أَمْ نَنْتَظِرُ آخَرَ؟ فَأَجَابَهُمَا يَسُوعُ: اذْهَبَا وَأَخْبِرَا يُوحَنَّا بِمَا تَسْمَعَانِ وَتَنْظُرَانِ. اَلْعُمْيُ يُبْصِرُونَ، وَالْعُرْجُ يَمْشُونَ، وَالْبُرْصُ يُطَهَّرُونَ، وَالصُّمُّ يَسْمَعُونَ، وَالْمَوْتَى يَقُومُونَ، وَالْمَسَاكِينُ يُبَشَّرُونَ. وَطُوبَى لِمَنْ لَا يَعْثُرُ فِيَّ" (متى 3:11-6).

لقد ظهر ملكوت الله في أعمال المسيح. هذا ما يبدو بوضوح في جميع أعماله ولا سيما في موقفه من شرائع الناموس ومن الخطاة. فالشرائع والوصايا التي ينص عليها الناموس هي شرائع الله ووصاياه، ولا أحد يستطيع أن يكملها إلا الله وحده. لكننا نرى يسوعيكمل شريعة السبت، معلناً أنه هو "رب السبت" (مرقس 28:2) ونراه يكمل شرائع الصوم وجميع المراسيم المتعلقة بغسل الأيدي وغسل الكؤوس والجرار (مرقس 1:7-13). ونراه خصوصاً يغفر الخطايا، وهو يعلم أن ما مِن أحدٍ يغفر الخطايا إلا الله وحده!

إن المسيح يعمل على الأرض أعمالاً خاصة بالله مبيّناً أن عمله هو عمل الله، وإرادته هي إرادة الله. يقول للمريض: "يا ابني مغفورة خطاياكَ" (مرقس 5:2). ويقول للمرأة الخاطئة: "مغفورة خطاياكِ (لوقا 48:7).

ومن خلال هذا الإعلان يدرك المستمع أن الله هو الذي يغفر الخطايا في شخص المسيح. وفي تعاليمه كما في أعماله يظهر المسيح أنه ممثل الله، فيقول: "الَّذِي يَرَانِي يَرَى الَّذِي أَرْسَلَنِي" (يوحنا 45:12). و"اَلَّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأَى الْآبَ" (يوحنا 9:14). وإنه أعظم من أنبياء اليهود وكتبتهم. فالأنبياء أعلنوا كلمة الله، أما المسيح فهو الكلمة نفسها، والمعلمون والكتبة كانوا يقتصرون في تعليمهم على تفسير ناموس موسى، أما يسوع فيوصّل الناموس إلى كماله كما يقول هو نفسه: "لَا تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لِأَنْقُضَ النَّامُوسَ أَوِ الْأَنْبِيَاءَ مَا جِئْتُ لِأَنْقُضَ بَلْ لِأُكَمِّلَ" (متى 17:5).

كان الأنبياء حينما يتكلمون يبدأون عباراتهم بقولهم: "هكذا يقول الرب" (إشعياء 24:1). ولكننا لا نجد أيَّ أثرٍ لهذه العبارة في أقوال يسوع، فهو يتكلم بسلطته الخاصة. "سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ لِلْقُدَمَاءِ أَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ" (متى 21:5،22). قيل للأقدمين في صيغة المجهول، وهذا تعبير مألوف يشير إلى الله. ومن يستطيع أن يزيد على كلام الله شيئاً، أو يدَّعي الوصول بهذا الكلام إلى كماله، إلا الله نفسه؟ ومع ذلك نسمع يسوع يضيف: "أما أنا فأقول لكم" . وهذا دليل على أن المسيح كان يدرك أن كلامه ليس كلام إنسان، بل كلام الله نفسه، وأنه في تعليمه يوصّل كلام الله الذي أُعطي في العهود القديمة إلى كماله. والآن يحقُّ لنا أن نسأل: إن كان المسيح يبشر بأن ملكوت الله قد أتى في شخصه وفي أعماله، فمن تراه يكون؟

إن لقب نبي لا يكفي للتعبير عن رسالته، لذلك يقول عنه الإنجيل "إنه أعظم من يونان" (متى 39:12) و "أعظم من سليمان" (متى 42:12). لقد رأى فيه الرسل الأّولون "المسيح" "ابن البشر" "الرب" "ابن الله" "كلمة الله" .

يروي إنجيل مرقس أنه عندما سأل يسوع تلاميذه: "في نظركم أنتم، من أنا؟ أجابه بطرس: أنت المسيح" (مرقس 27:8ـ30). ويروي إنجيل يوحنا أن أندراوس الرسول بعد أن تعرَّف على يسوع لقي أخاه سمعان فقال له: "قَدْ وَجَدْنَا مَسِيَّا أي المسيح" (يوحنا 41:1). ثم صادف فيلبس نثنائيل، فقال له: "وَجَدْنَا الَّذِي كَتَبَ عَنْهُ مُوسَى فِي النَّامُوسِ وَالْأَنْبِيَاءُ: يَسُوعَ ابْنَ يُوسُفَ الَّذِي مِنَ النَّاصِرَةِ" (يوحنا 43:1-46).

فمن هو هذا المسيح الذي كتب عنه موسى والأنبياء، والذي كان ينتظره اليهود؟

كانت لفظة "المسيح" في العهد القديم نعتاً للنبي والكاهن والملك، لأنهم كانوا يُمسحون بالزيت دلالة على تكريسهم لخدمة الله وخدمة شعبه، فموسى مسح هارون وأولاده ليكونوا كهنة (لاويين 8: 30) وصموئيل مسح داود ليكون ملكاً على إسرائيل (1 صموئيل 16: 13). والمسحة بالزيت هي رمز منح الروح القدس، كما يوضح ذلك سفر الملوك. فعندما أَخَذَ صَمُوئِيلُ قَرْنَ ا لدُّهْنِ وَمَسَحَهُ فِي وَسَطِ إِخْوَتِهِ. وَحَلَّ رُوحُ الرَّبِّ عَلَى دَاوُدَ مِنْ ذ لِكَ الْيَوْمِ فَصَاعِداً" (صموئيل 13:16). وقد وعد الله داود على لسان ناثان النبي أنه سيُقيم له من نسله ملكاً وسيُقِرّ عرش مُلكه إلى الأبد (2صموئيل 7: 13). وعاش اليهود على مدى أجيالهم ينتظرون تحقيق تلك النبوّة بمجيء ملكٍ من نسل داود يُمسح كسائر ملوك إسرائيل، ولكن لا يكون لملكه انقضاء. وزاد رجاؤهم إلحاحاً بعد تدمير مملكتهم وسبيهم إلى بابل. وعندئذ راح الأنبياء يصفون ملامح هذا المسيح الذي سوف يأتي في آخر الأزمنة ممتلئاً من الروح القدس، نبياً وملكاً، يوطد مملكة إسرائيل إلى الأبد. ولقد رأى الرسل أن نبوّات العهد القديم المتعلّقة بالمسيح قد تمت كلها في شخص يسوع.

جاء المسيح ممتلئاً من الروح القدس، ولكنه لم يأت كما كان يتوقعه اليهود ملكاً سياسياً، فلم تكن مملكته من هذا العالم (يوحنا 18: 33-38). ولذلك عندما أراد اليهود أن يقيموه عليهم ملكاً توارى عنهم (يوحنا 6: 15).

وهذا هو المعنى العميق للتجارب التي يروي أصحاب الأناجيل أن المسيح تعرّض لها في بدء خدمته العلنية (متى4: 1-11، ومرقس 1: 12، 13 ولوقا 4: 1-13). فهذه التجارب ليست روايةً لما جرى ليسوع مرة، بل هي تفسير للعراك الذي قام به يسوع طوال حياته العلنية ليقاوم فكرة اليهود عن المسيح المنتظر. فبينما كان اليهود ينتظرون مسيحاً يبهر الناس بالعجائب الخارقة فيحّول الحجارة إلى خبز، ويرمي بنفسه من قمة جناح الهيكل دون أن يُصاب بأذى، ويستعبد نفسه للقوى الشيطانية للحصول على ممالك الدنيا ومجدها، جاء يسوع مسيحاً ممتلئاً من الروح القدس، يُحيي الجائعين بكلمة الله، ومسيحاً متألماً يقدم ذاته على الصليب ذبيحة فداء لتحقيق ملكوت الله في قلوب الناس.

لذلك عندما أنبأ المسيح تلاميذه بأنه سيتألم ويُقتل اجتذبه بطرس إليه وطفق يزجره قائلاً: معاذ الله يا رب! لا! لن يكون ذلك البتة . أما هو فقال لبطرس: اذهب خلفي يا شيطان. إنك لي معثرة. لأن أفكارك ليست أفكار الله بل أفكار الناس (مرقس 8: 32-33). أفكار الناس في المسيح المنتظر هي في نظر المسيح أفكار شيطانية، لأنها ترى طريق المجد في السلطة الزمنية والمُلك المادي. أما طريق المجد بحسب منطق الله فهي طريق المحبة والتضحية والعطاء حتى الموت، كما قال للتلميذين اللذين صادفهما في الطريق إلى عمواس، وقد قطعا كل رجاء بعد موت المسيح: ما أقصر أبصاركما وما أبطأ قلوبكما في الإيمان بكل ما نطقت به الأنبياء! أَمَا كان ينبغي للمسيح أن يكابد هذه الآلام ويدخل إلى مجده (لوقا 24: 25 و26).

أما لقب "ابن البشر" فيُعدّ أقدم لقب أُطلق على المسيح في العهد الجديد، ويرجع إلى الفصل السابع من نبوّة دانيال: ورأيت في رؤى الليل فإذا بمثل ابن البشر آتياً على سحاب السماء، فبلغ إلى القديم الأيام، وقُرِّب إلى أمامه، وأوتي سلطاناً ومجداً وملكاً .

والناظر المدقق في آيات الإنجيل لا بد وأن يلاحظ أن لقب ابن البشر جاء دائماً في إطار الحديث عن آخر الأزمنة، وعن الدينونة الحق أقول لكم. إن كل من يعترف بي قدام الناس يعترف به ابن البشر قدام ملائكة الله (متى 10: 32).

بيد أن سلطة ابن البشر - ومن خلال تعليم الكتاب - لا تقتصر على يوم الدينونة في آخر الأزمنة، فإن ملكوت الله قد بدأ بمجيء المسيح "فابن البشر له على الأرض سلطان مغفرة الخطايا" (مرقس 2: 10). "ابن البشر قد جاء يطلب ما قد هلك ويخلّصه" (لوقا 19: 10) ابن البشر هو ربّ السبت (مرقس 2: 28) وبالرغم من ذلك فإن سلطة ابن البشر على هذه الأرض ليست سلطةً للسيادة بل للخدمة فالثعالب لها أوجرة ولطيور السماء أوكار أما ابن البشر فليس له موضعٌ يسند إليه رأسه (لوقا 9: 58).

أما لقب "الرب" فقد أطلقه العهد الجديد على يسوع في مواضع كثيرة، وهو ترجمة للفظة اليونانية "كيريوس" التي تعني "السيد" و"الرب" . وقد استخدم العهد الجديد لفظ سيد في مواضع ولفظ "كيريوس " في مواضع أخرى. ولفهم هذا الاستعمال لابد من العودة إلى العهد القديم، وقت كان اليهود يمتنعون عن لفظ اسم الله يهوه احتراماً له. لذلك كانوا في قراءاتهم للتوراة كلما رأوا اسم يهوه يقرأونه أدوناي أي الرب . ومن ثمَّ أصبحت لفظة الرب مرادفة لاسم الجلالة يهوه . وعندما ترجم يهود الإسكندرية كتب العهد القديم من العبرية إلى اليونانية في الترجمة السبعينية ترجموا اسم "يهوه" بكلمة "كيريوس" التي تعني "الرب".

ومن هنا نستنتج أن الرسل باعترافهم أن يسوع هو الرب يعترفون له بلقب مختصٍّ بالله نفسه. لذلك ترد لفظتا الرب والإله جنباً إلى جنب كمترادفتين.

إن هذا اللقب مع ما يحمله من معنى الألوهية أطلقه الرسل على يسوع بعد أن انكشف لهم سرُّ شخصه، وأدركوا أن الصلب لم يكن بالنسبة إليه نهاية كل شيء، لأن الذي صُلب ومات قد قام وظهر لهم، وأوكل إليهم مهمة دعوة جميع الأمم بقوة السلطان الذي دُفع إليه.

 

الفصل السادس عشر: الخلاص

 

في كتابه "دع القلق وابدأ الحياة يقول ديل كارنيجي": "لا تأتينا قرحة المعدة مما نأكله، بل مما يأكلنا قاصداً القلق! ولا شك أنه قد أصاب لبّ الحقيقة من قال: "من أصابه القلق فقَدَ مِتَع الحياة، وإن جاءته تسعى".

لكن ما عساه يفعل من كان القلق في حياته أمراً يفرضه معتقده الديني!

إن الذين خوطبوا بلعلّ أو بعسى أن يغفر الله لكم ويكفر عنكم خطاياكم، هم قومٌ بلا شك ألقاهم معتقدهم في القلق والهم والحيرة، فهم يُصبِحون ويُمْسون وهم لا يدرون في أي الفريقين سيكونون. هل هم من الناجين الذين غُفر لهم، أم من الهالكين الذين رُفضت توبتهم!!

تعيس ذلك الإنسان الذي خلد إلى فراشه وهو غير ضامن لمستقبل حياته الأبدية. تعيس من قام من بين يدي الله ولم ينل خلاصه. وطوبى لمن اطمأنت نفسه، وسكنت روحه بتأكيدِ الله بنجاته!

إن ألمع جوانب المسيحية على الإطلاق هو تأكُّد معتنقيها مِن خلاصهم، بفضل دم مخلِّصنا الذي غطى خطايانا وغفر ذنوبنا. ففي ظل هذه العقيدة المخلِّصة نجد أن الله قد انحنى على البشر عندما أخذ تراباً وخلق الإنسان، ثم انحنى عليهم ثانية عندما كلّمهم بواسطة أنبيائه. وأخيراً لما بلغ ملء الزمان انحنى عليهم في شخص ابنه يسوع المسيح، الذي جاء مخلِّصاً للإنسان في شخصه وحياته وموته وقيامته.

نسمع أحياناً بعض الوعاظ في حديثهم عن الفداء والخلاص فإذا هم يحصرونهما في موت المسيح. غير أن هذه نظرةٌ ضيّقة للغاية، فبظهور المسيح ابن الله في الجسد أمكن خَلْق الإنسان الجديد الذي لا نقص فيه ولا اعوجاج ولا ذنب ولا خطية، فبتجسُّد الكلمة حصلت الطبيعة البشرية على الخلاص، واتَّحدت بشخص ابن الله القدوس فتجدَّدت "وتألَّهت" (2 بطرس 1: 4).

في شخص يسوع المسيح وُجدت طبيعة بشرية خالصة كاملة، فخلاص الإنسان هو قبل كل شيء خلاص كيان. وهذا الخلاص يتمّ باتحاده في كيان المسيح، فيصبح إنساناً جديداً (2 كورنثوس 5: 17) متَّحداً بالله اتّحاداً جوهرياً. فكما أننا انفصلنا عن الله عن طريق آدم، فقد اتصلنا بالله عن طريق يسوع المسيح.

وقد تمَّ الخلاص للبشرية لا من خلال تجسّد الكلمة فقط، بل من خلال أعمال الرب يسوع يروي لنا لوقا أن يسوع دخل المجمع يوم سبت وقام ليقرأ، فدُفع إليه سفر إشعياء النبي فلما نشر السفر وقع على الموضع المكتوب فيه: روح الرب عليَّ، لأنه مسحني لأبشّر المساكين، وأرسلني لأنادي للمأسورين بالتخلية، وللعميان بالبصر، وأُطلق المرْهَقين أحراراً، وأُعلن سنة نعمةٍ للرب . ثم طوى السفر ودفعه إلى الخادم وجلس. وكانت عيون الذين في المجمع شاخصةً إليه بأجمعها، فشرع يقول لهم: اليوم تمَّت هذه الكتابة التي تُليت على مسامعكم (لوقا 4: 16-21)

وكانوا جميعاً يشهدون له، ويعجبون بكلام النعمة الخارج من فمه .

كان اليهود يحتفلون كل خمسين سنةٍ بسنةِ يوبيل يُريحون في أثنائها الأرض، ويطلقون الأسرى، ويحررون العبيد. وكانت تلك السنة، سنة نعمةٍ للرب. وبمجيء المسيح أصبحت سنة النعمة هذه لا مرة كل خمسين سنة، بل سنةً دائمة، لأن المسيح هو نعمة الله التي انسكبت على جميع البشر ولا سيما على الفقراء والمرهقين والخطاة. إن الإنسان يعيش في القلق والعبودية والخوف عندما تسيطر عليه مخاطر من ذاته ومن شهواته وأمياله، فيسقط في الخطيّة ويصبح عبداً لها، وبالتالي يصبح في حاجة إلى من يخلّصه من خطيته، وينقذه من مخاطر المجتمع الذي يرذله ويحتقره ويستعبده، فيمسي في حاجةٍ إلى من ينقذه من قيود المجتمع، ومن مخاطر الطبيعة والكون كالأمراض والمصائب والموت.

ولقد جاء المسيح مخلِّصاً للإنسان ينقذه ويحرره من سطوة تلك المخاطر جميعاً. جاء يغفر الخطايا ويُظهر للخطاة أن محبة الله أعظم من خطاياهم. وجاء يُظهر بأقواله وأعماله أن الخطاة والغرباء والفقراء هم أقرب إلى قلب الله من الفريسيين والمتسلطين والأغنياء، ويؤكد أن محبة الله تشمل جميع الناس على السواء. وجاء يشفي المرضى، ويُنهِض المخلَّعين ويُقيم الموتى، مظهراً أن محبة الله أقوى من مخاطر المرض والموت.

المحبة وحدها هي التي تخلّص الإنسان في جميع أبعاده: في ذاته وفي علاقته بالآخرين وفي ارتباطه بالحياة والكون. وقد أظهر لنا يسوع في حياته وأعماله عمق تلك المحبة التي ليست محبة إنسانٍ لآخر، بل محبة الله نفسه التي تنسكب على جميع الناس، فتُحيي نفوسهم وتخلِّصهم من عبوديتهم (رومية 5:5).

وإذا كانت أعمال المسيح قد حقَّقت الخلاص للإنسان، فإن موته على الصليب هو قمَّة عمله الخلاصي.

كان الشعب اليهودي ينتظر مجيء مسيحٍ ملكٍ يُخلِّصه من عبوديته ويحرره من سيطرة الرومان، ويُعيد مملكة داود، مُنشِئاً مملكةً دنيوية كسائر الممالك مؤسَّسة على القوة والسيادة، لذلك رفض الاعتراف بأن يسوع هو المسيح المنتظر. ولقد حقق يسوع رغبة الأجيال السابقة ونبوات الأنبياء، وجاء ليخلِّص الإنسان ويحرر الشعب. لكنه رفض تحقيق ذلك باللجوء إلى طرقٍ ملّوَثةٍ بالذنوب، لأن الذنب لا يزيله ذنبٌ آخر. فالحقد لا يزيله الحقد، والإثم لا يمحوه الإثم، والقتل لا يبطله القتل. المحبة وحدها تستطيع أن تزيل الحقد، والمغفرة وحدها تستطيع أن تمحو الإثم، والموت في سبيل القاتل يستطيع وحده أن يبطل القتل.

لقد استطاع الحقد أن يعلّق المسيح على الصليب، لكنه وقف عاجزاً أمام المغفرة التي منحها يسوع لصالبيه يَا أَبَتَاهُ، اغْفِرْ لَهُمْ، لِأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ (لوقا 23: 34).

أوصى المسيح تلاميذه بأن تكون محبة الأعداء هي العلامة المميِّزة لهم، لأنها العلامة المميِّزة للآب السماوي أحبوا أعداءكم وصلّوا لأجل الذين يضطهدونكم لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السموات، فإنه يُطلِع شمسه على الأشرار والصالحين، ويَمْطُر على الأبرار والأثمة (متى 5: 43-48). تلك المحبة التي تقوم لا على إقامة الحواجز وتدمير الآخرين بحُجَّة أنهم أعداء أو فُسَّاق أو زنادقة أو مشركين كفرة، بل على رفع كل حاجزٍ يفصل الإنسان عن أخيه الإنسان، والإنسان عن خالقه الله، ولقد حققها المسيح في حياته عندما غفر للخطاة وحققها إلى أقصى حدّ في موته عندما غفر لقاتليه!

قرأت بعض التفسيرات لموت المخلِّص الفادي تظهره عملاً قام به المسيح ليسكّن غضب الله، أو فدية دفعها المسيح عن الإنسان لتحريره من عبودية الشيطان. لكني أعتقد أن غضب الله على الخطاة وعبودية الخطاة للشيطان هما صورتان أدبيتان هدفهما إظهار البُعد الحقيقي والتناقض العميق بين الخطيّة والله. وذبائح الحيوانات التي كان بنو إسرائيل يقدمونها لله كانت تعبّر عن إدراك الإنسان لهذا البُعد الذي تنشئه الخطية بينه وبين الله، وعن اقتناع الإنسان بأن الموت وحده يمكنه التكفير عن الخطية، لأن الخطية إهانة قصوى لله.

ولقد أتت المبادرة من الله نفسه، فالله هو الذي يبادر برحمته إلى تبرير من كان خاطئاً وإحياء من كان ميتاً. لا يقول العهد الجديد إن الإنسان هو الذي يتصالح مع الله، بل الله صالح في المسيح العالم مع نفسه (2 كورنثوس 5: 19). ويعبّر العهد الجديد عن هذه الفكرة بأمثال وتشابيه متنوعة: فالله هو الراعي الصالح الذي يمضي بنفسه في طلب الخروف الضال حتى يجده (لوقا 15: 1-10). والله هو الذي أَحَبَّ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ، لِكَيْ لَا يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الْأَبَدِيَّةُ (يوحنا 3: 16).

إن تقديم يسوع ذاته أنشأ عهداً جديداً. فالعهد القديم أنشأ بين الله وشعبه على يد موسى عهداً بواسطة دم الحيوانات وَأَخَذَ مُوسَى الدَّمَ وَرَشَّ عَلَى الشَّعْبِ وَقَالَ: "هُوَذَا دَمُ الْعَهْدِ الَّذِي قَطَعَهُ الرَّبُّ مَعَكُمْ عَلَى جَمِيعِ هذِهِ الْأَقْوَالِ" (خروج 24: 8).

أما يسوع فأنشأ عهداً جديداً مع المؤمنين به بدم نفسه.

وكان العهد القديم مبنياً على شريعة الله التي أُعطيت لموسى، أما العهد الجديد فمبنيٌّ على نعمة المسيح لِأَنَّ النَّامُوسَ بِمُوسَى أُعْطِيَ، أَمَّا النِّعْمَةُ وَالْحَقُّ فَبِيَسُوعَ الْمَسِيحِ صَارَا" (يوحنا 1: 17). فإن نعمة المسيح ومحبته جعلتاه يسكب دمه على أحبائه. وفي العهد القديم كان العهد مع موسى يضم شعب الله المكوَّن من الشعب اليهودي، نسل إبراهيم الجسدي. أما العهد الجديد فهو عهد الله بالمسيح مع شعب الله من كل قبيلة وشعب."كُلُّ الَّذِينَ قَبِلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ سُلْطَاناً أَنْ يَصِيرُوا أَوْلَادَ اللّهِ، أَيِ الْمُؤْمِنُونَ بِاسْمِهِ" (يوحنا 12:1).

وخلاصة القول، إن الكتاب بتعاليمه هذه يدخل بنا زمن العهد الجديد مانحاً إيّانا هذا الخلاص الأكيد المضمون، الذي بغيره يحيا الإنسان في قلق ينتهي بالهلاك.

 

والخلاصة

إن سرّ شخص المسيح كما يبدو لنا من خلال العهد الجديد يتبلور في علاقته بالله الآب، فالمسيح إنسان مرتبط بالله في صميم رسالته وعمق كيانه، ولا فرق بين شخص المسيح، كلمة الله، وبين رسالته وكيانه، فرسالته هي كيانه وكيانه هو رسالته. وهذا ما لم يكن لأحدٍ سواه، ولا حتى للأنبياء. فكل إنسان له كيانه الخاص به، ثم يتلقَّى من الله رسالة مستقلة عن كيانه. أما في يسوع فالرسالة والكيان أمران متماثلان، فرسالته هي إعلان إرادة الله، وإظهار محبة الله، وإنشاء ملكوت الله.

فالله إذاً قد أوحى بذاته إلى العالم بشكل نهائي في شخص ابنه المسيح، الذي هو صورة جوهره وكلمته الأزلية، والذي يعبّر عن كيانه أصدق تعبير. وهذا ما تعلمناه من شأن مخلِّصنا الأعظم، من خلال الكتاب الأقدس.

 

 

الفصل السادس عشر: الخلاص

في كتابه "دع القلق وابدأ الحياة يقول ديل كارنيجي": "لا تأتينا قرحة المعدة مما نأكله، بل مما يأكلنا قاصداً القلق! ولا شك أنه قد أصاب لبّ الحقيقة من قال: "من أصابه القلق فقَدَ مِتَع الحياة، وإن جاءته تسعى".

لكن ما عساه يفعل من كان القلق في حياته أمراً يفرضه معتقده الديني!

إن الذين خوطبوا بلعلّ أو بعسى أن يغفر الله لكم ويكفر عنكم خطاياكم، هم قومٌ بلا شك ألقاهم معتقدهم في القلق والهم والحيرة، فهم يُصبِحون ويُمْسون وهم لا يدرون في أي الفريقين سيكونون. هل هم من الناجين الذين غُفر لهم، أم من الهالكين الذين رُفضت توبتهم!!

تعيس ذلك الإنسان الذي خلد إلى فراشه وهو غير ضامن لمستقبل حياته الأبدية. تعيس من قام من بين يدي الله ولم ينل خلاصه. وطوبى لمن اطمأنت نفسه، وسكنت روحه بتأكيدِ الله بنجاته!

إن ألمع جوانب المسيحية على الإطلاق هو تأكُّد معتنقيها مِن خلاصهم، بفضل دم مخلِّصنا الذي غطى خطايانا وغفر ذنوبنا. ففي ظل هذه العقيدة المخلِّصة نجد أن الله قد انحنى على البشر عندما أخذ تراباً وخلق الإنسان، ثم انحنى عليهم ثانية عندما كلّمهم بواسطة أنبيائه. وأخيراً لما بلغ ملء الزمان انحنى عليهم في شخص ابنه يسوع المسيح، الذي جاء مخلِّصاً للإنسان في شخصه وحياته وموته وقيامته.

نسمع أحياناً بعض الوعاظ في حديثهم عن الفداء والخلاص فإذا هم يحصرونهما في موت المسيح. غير أن هذه نظرةٌ ضيّقة للغاية، فبظهور المسيح ابن الله في الجسد أمكن خَلْق الإنسان الجديد الذي لا نقص فيه ولا اعوجاج ولا ذنب ولا خطية، فبتجسُّد الكلمة حصلت الطبيعة البشرية على الخلاص، واتَّحدت بشخص ابن الله القدوس فتجدَّدت "وتألَّهت" (2 بطرس 1: 4).

في شخص يسوع المسيح وُجدت طبيعة بشرية خالصة كاملة، فخلاص الإنسان هو قبل كل شيء خلاص كيان. وهذا الخلاص يتمّ باتحاده في كيان المسيح، فيصبح إنساناً جديداً (2 كورنثوس 5: 17) متَّحداً بالله اتّحاداً جوهرياً. فكما أننا انفصلنا عن الله عن طريق آدم، فقد اتصلنا بالله عن طريق يسوع المسيح.

وقد تمَّ الخلاص للبشرية لا من خلال تجسّد الكلمة فقط، بل من خلال أعمال الرب يسوع يروي لنا لوقا أن يسوع دخل المجمع يوم سبت وقام ليقرأ، فدُفع إليه سفر إشعياء النبي فلما نشر السفر وقع على الموضع المكتوب فيه: روح الرب عليَّ، لأنه مسحني لأبشّر المساكين، وأرسلني لأنادي للمأسورين بالتخلية، وللعميان بالبصر، وأُطلق المرْهَقين أحراراً، وأُعلن سنة نعمةٍ للرب . ثم طوى السفر ودفعه إلى الخادم وجلس. وكانت عيون الذين في المجمع شاخصةً إليه بأجمعها، فشرع يقول لهم: اليوم تمَّت هذه الكتابة التي تُليت على مسامعكم (لوقا 4: 16-21)

وكانوا جميعاً يشهدون له، ويعجبون بكلام النعمة الخارج من فمه .

كان اليهود يحتفلون كل خمسين سنةٍ بسنةِ يوبيل يُريحون في أثنائها الأرض، ويطلقون الأسرى، ويحررون العبيد. وكانت تلك السنة، سنة نعمةٍ للرب. وبمجيء المسيح أصبحت سنة النعمة هذه لا مرة كل خمسين سنة، بل سنةً دائمة، لأن المسيح هو نعمة الله التي انسكبت على جميع البشر ولا سيما على الفقراء والمرهقين والخطاة. إن الإنسان يعيش في القلق والعبودية والخوف عندما تسيطر عليه مخاطر من ذاته ومن شهواته وأمياله، فيسقط في الخطيّة ويصبح عبداً لها، وبالتالي يصبح في حاجة إلى من يخلّصه من خطيته، وينقذه من مخاطر المجتمع الذي يرذله ويحتقره ويستعبده، فيمسي في حاجةٍ إلى من ينقذه من قيود المجتمع، ومن مخاطر الطبيعة والكون كالأمراض والمصائب والموت.

ولقد جاء المسيح مخلِّصاً للإنسان ينقذه ويحرره من سطوة تلك المخاطر جميعاً. جاء يغفر الخطايا ويُظهر للخطاة أن محبة الله أعظم من خطاياهم. وجاء يُظهر بأقواله وأعماله أن الخطاة والغرباء والفقراء هم أقرب إلى قلب الله من الفريسيين والمتسلطين والأغنياء، ويؤكد أن محبة الله تشمل جميع الناس على السواء. وجاء يشفي المرضى، ويُنهِض المخلَّعين ويُقيم الموتى، مظهراً أن محبة الله أقوى من مخاطر المرض والموت.

المحبة وحدها هي التي تخلّص الإنسان في جميع أبعاده: في ذاته وفي علاقته بالآخرين وفي ارتباطه بالحياة والكون. وقد أظهر لنا يسوع في حياته وأعماله عمق تلك المحبة التي ليست محبة إنسانٍ لآخر، بل محبة الله نفسه التي تنسكب على جميع الناس، فتُحيي نفوسهم وتخلِّصهم من عبوديتهم (رومية 5:5).

وإذا كانت أعمال المسيح قد حقَّقت الخلاص للإنسان، فإن موته على الصليب هو قمَّة عمله الخلاصي.

كان الشعب اليهودي ينتظر مجيء مسيحٍ ملكٍ يُخلِّصه من عبوديته ويحرره من سيطرة الرومان، ويُعيد مملكة داود، مُنشِئاً مملكةً دنيوية كسائر الممالك مؤسَّسة على القوة والسيادة، لذلك رفض الاعتراف بأن يسوع هو المسيح المنتظر. ولقد حقق يسوع رغبة الأجيال السابقة ونبوات الأنبياء، وجاء ليخلِّص الإنسان ويحرر الشعب. لكنه رفض تحقيق ذلك باللجوء إلى طرقٍ ملّوَثةٍ بالذنوب، لأن الذنب لا يزيله ذنبٌ آخر. فالحقد لا يزيله الحقد، والإثم لا يمحوه الإثم، والقتل لا يبطله القتل. المحبة وحدها تستطيع أن تزيل الحقد، والمغفرة وحدها تستطيع أن تمحو الإثم، والموت في سبيل القاتل يستطيع وحده أن يبطل القتل.

لقد استطاع الحقد أن يعلّق المسيح على الصليب، لكنه وقف عاجزاً أمام المغفرة التي منحها يسوع لصالبيه يَا أَبَتَاهُ، اغْفِرْ لَهُمْ، لِأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ (لوقا 23: 34).

أوصى المسيح تلاميذه بأن تكون محبة الأعداء هي العلامة المميِّزة لهم، لأنها العلامة المميِّزة للآب السماوي أحبوا أعداءكم وصلّوا لأجل الذين يضطهدونكم لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السموات، فإنه يُطلِع شمسه على الأشرار والصالحين، ويَمْطُر على الأبرار والأثمة (متى 5: 43-48). تلك المحبة التي تقوم لا على إقامة الحواجز وتدمير الآخرين بحُجَّة أنهم أعداء أو فُسَّاق أو زنادقة أو مشركين كفرة، بل على رفع كل حاجزٍ يفصل الإنسان عن أخيه الإنسان، والإنسان عن خالقه الله، ولقد حققها المسيح في حياته عندما غفر للخطاة وحققها إلى أقصى حدّ في موته عندما غفر لقاتليه!

قرأت بعض التفسيرات لموت المخلِّص الفادي تظهره عملاً قام به المسيح ليسكّن غضب الله، أو فدية دفعها المسيح عن الإنسان لتحريره من عبودية الشيطان. لكني أعتقد أن غضب الله على الخطاة وعبودية الخطاة للشيطان هما صورتان أدبيتان هدفهما إظهار البُعد الحقيقي والتناقض العميق بين الخطيّة والله. وذبائح الحيوانات التي كان بنو إسرائيل يقدمونها لله كانت تعبّر عن إدراك الإنسان لهذا البُعد الذي تنشئه الخطية بينه وبين الله، وعن اقتناع الإنسان بأن الموت وحده يمكنه التكفير عن الخطية، لأن الخطية إهانة قصوى لله.

ولقد أتت المبادرة من الله نفسه، فالله هو الذي يبادر برحمته إلى تبرير من كان خاطئاً وإحياء من كان ميتاً. لا يقول العهد الجديد إن الإنسان هو الذي يتصالح مع الله، بل الله صالح في المسيح العالم مع نفسه (2 كورنثوس 5: 19). ويعبّر العهد الجديد عن هذه الفكرة بأمثال وتشابيه متنوعة: فالله هو الراعي الصالح الذي يمضي بنفسه في طلب الخروف الضال حتى يجده (لوقا 15: 1-10). والله هو الذي أَحَبَّ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ، لِكَيْ لَا يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الْأَبَدِيَّةُ (يوحنا 3: 16).

إن تقديم يسوع ذاته أنشأ عهداً جديداً. فالعهد القديم أنشأ بين الله وشعبه على يد موسى عهداً بواسطة دم الحيوانات وَأَخَذَ مُوسَى الدَّمَ وَرَشَّ عَلَى الشَّعْبِ وَقَالَ: "هُوَذَا دَمُ الْعَهْدِ الَّذِي قَطَعَهُ الرَّبُّ مَعَكُمْ عَلَى جَمِيعِ هذِهِ الْأَقْوَالِ" (خروج 24: 8).

أما يسوع فأنشأ عهداً جديداً مع المؤمنين به بدم نفسه.

وكان العهد القديم مبنياً على شريعة الله التي أُعطيت لموسى، أما العهد الجديد فمبنيٌّ على نعمة المسيح لِأَنَّ النَّامُوسَ بِمُوسَى أُعْطِيَ، أَمَّا النِّعْمَةُ وَالْحَقُّ فَبِيَسُوعَ الْمَسِيحِ صَارَا" (يوحنا 1: 17). فإن نعمة المسيح ومحبته جعلتاه يسكب دمه على أحبائه. وفي العهد القديم كان العهد مع موسى يضم شعب الله المكوَّن من الشعب اليهودي، نسل إبراهيم الجسدي. أما العهد الجديد فهو عهد الله بالمسيح مع شعب الله من كل قبيلة وشعب."كُلُّ الَّذِينَ قَبِلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ سُلْطَاناً أَنْ يَصِيرُوا أَوْلَادَ اللّهِ، أَيِ الْمُؤْمِنُونَ بِاسْمِهِ" (يوحنا 12:1).

وخلاصة القول، إن الكتاب بتعاليمه هذه يدخل بنا زمن العهد الجديد مانحاً إيّانا هذا الخلاص الأكيد المضمون، الذي بغيره يحيا الإنسان في قلق ينتهي بالهلاك.

 

 

الفصل السابع عشر: أبناء الله

 

"أنا قلت إنكم آلهة وأبناء العلي كلكم!" هكذا يقول المزمور الثاني والثمانون. ولابد من وقفة نتذكر فيها أبا العلاء المعري عندما قال:

لا تقيد على لفظي فإني مثل غيري - تكلُّمي بالمجاز

ومن المجاز إطلاق الجزء على الكل، وعلى هذا التأويل نفهم أن الجانب الإلهي في الإنسان، هو أسمى ما فيه ولباب جوهره المكنون، وهو المبرر أن يُقال عن الناس إنهم آلهة على سبيل التذكرة بما ينبغي أن يرتفعوا إليه، إذ يكونون ربانيين، وإن هذه حقيقتهم الخالدة لا بشريّتهم الفانية، لأنه على صورة أزليته صنعهم.

وفي حسباني أن اللغة لو طاوعت كاتب ذلك المزمور وكان يكتبه بالعربية لكانت كلمة الربانيين أو الإلهيين أسبق إلى قلمه من كلمة الآلهة ولو على سبيل ما سُقناه مِن تأويلٍ بالمجاز.

لنقل إذاً إن المطلوب من البشر أن يرتفعوا إلى سمّوِ مصدرهم، ويكتشفوا حقيقتهم: إنهم إلهيون، وأبناء الله العلي بالروح الباقي لا بالجسم الزائل الفاسد المندثر.

والإلهي الحق هو من يتشبَّه بالله. والابن الحقُّ هو مَن يحاكي أباه. فأبناء الله إذاً ينبغي أن يكونوا كاملين كما أن الله كامل.

هذا هو تعليم الكتاب. وهذه هي وصية الكتاب . وتلك هي ميزة الكتاب . هاهو يوحنا الحبيب في رسالته الأولى يصيح بما عُهد فيه من حمية وحماسة، حتى لقد سمّاه السيد المسيح "ابن الرعد ": "كُلُّ مَنْ هُوَ مَوْلُودٌ مِنَ اللّهِ لَا يَفْعَلُ خَطِيَّةً، لِأَنَّ زَرْعَهُ يَثْبُتُ فِيهِ، وَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُخْطِئَ لِأَنَّهُ مَوْلُودٌ مِنَ اللّهِ. بِه ذَا أَوْلَادُ اللّهِ ظَاهِرُونَ وَأَوْلَادُ إِبْلِيسَ كُلُّ مَنْ لَا يَفْعَلُ الْبِرَّ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ" (1يوحنا 3: 9، 10). ولا عجب، فالمسيح نفسه قال في موعظة الجبل: "كُونُوا أَنْتُمْ كَامِلِينَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ هُوَ كَامِلٌ" (متى 5: 48). ولما كان الله محبة - كما يعلِّمنا الكتاب - فأبناء الله الحقيقيون ينبغي أن تكون المحبة فطرتهم، للجميع بلا استثناء. نعم بلا استثناءٍ لمَن أراد أن يكون مولوداً من الله. هذا هو تعليم الكتاب. أَلاَ تقول الوصية الثانية من وصايا الناموس: "أحب قريبك حبك لنفسك"؟ (متى 22: 37). وهاهو المسيح يقول في موعظة الجبل: "سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ: ‘تُحِبُّ قَرِيبَكَ وَتُبْغِضُعَدُّوَكَ’. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: ‘أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ، بَارِكُوالَاعِنِيكُمْ، أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، وَصَلُّوا لِأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ، لِكَيْ تَكُونُوا أَبْنَاءَ أَبِيكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ، فَإِنَّهُ يُشْرِقُ شَمْسَهُ عَلَى الْأَشْرَارِ وَالصَّالِحِينَ، وَيُمْطِرُ عَلَى الْأَبْرَارِ وَالظَّالِمِينَ، لِأَنَّهُ إِنْ أَحْبَبْتُمُ الَّذِينَ يُحِبُّونَكُمْ، فَأَيُّ أَجْرٍ لَكُمْ؟ أَلَيْسَ الْعَشَّارُونَ أَيْضاً يَفْعَلُونَ ذلِكَ؟ وَإِنْ سَلَّمْتُمْ عَلَى إِخْوَتِكُمْ فَقَطْ، فَأَيَّ فَضْلٍ تَصْنَعُونَ؟ أَلَيْسَ الْعَشَّارُونَ أَيْضاً يَفْعَلُونَ هكَذَا؟!" (متى 5: 43-47).

الخاطئون أنفسهم يحبّون من يحبّهم وإن أحسنتم إلى من يحسن إليكم، فأي فضلٍ لكم؟ الخطاة أنفسهم يفعلون ذلك.. ولكن أحبوا أعداءكم، وأحسنوا وأَقرِضوا غير راجين شيئاً، فيكون أجركم عظيماً وتكونوا أبناء العلي حقاً، لأنه يجود على الجاحدين والأشرار. كونوا رحماء لأن أباكم رحيم!.

الله رب الجميع بلا استثناء وأب الجميع وكافلهم بلا استثناء. فالجميع إخوتك في الله بلا استثناء، العدو منهم والصديق. وليس من الله من لا يحب أخاه (1يوحنا 3: 10).

وعلى هذا النسق المتَّسق المتكامل تمضي فقرات رسالة يوحنا الأولى كنهرٍ من التِّبر، تتحدث عن المحبة الشاملة التي بها يصير الناس أبناء الله حقاً، لأنه سبحانه محبة.

وإذا ألقينا نظرة على وصايا الشريعة العشر، وجدنا وصايا الله وإكرام الوالدين ومحبة القريب هي وحدها الإيجابية، وبقية الوصايا سلبية: سلسلة من النواهي، كل وصية منها تبدأ بلا الناهية لا تقتل. لا تزن. لا تسرق )خروج 20: 13-15

وبرسالة المحبة المسيحية صار الأساس مختلفاً. لم تعُد شريعة موسى كافية، بل المطلوب شيء أعظم من طاعة الشريعة بكثير. المطلوب منك نفسك كلها - هذا ما يعلمنا الكتاب - لا أفعالاً محددة، أو طقوساً، أو اجتناب محرمات فحسب، فكل الفضائل من غير المحبة لغو!

هكذا حرِص بولس الرسول في الأصحاح الثالث عشر مِن رسالته الأولى إلى كورنثوس أن ينبّه المؤمنين بالمسيحية إلى المحبة، كي يفطن إليها من أُوتوا ذلك اللمح العقلي والروحي، فيقول: تشّوَقوا إلى المواهب العظمى، وإني أدلّكم على أفضل الطريق الأفضل: لو تكلَّمتُ بلغات الناس والملائكة، ولم تكن لديَّ محبة، فما أنا إلا نحاس يطن وصنج يرن .

بل يمضي بولس إلى ما هو أكثر من هذا. يمضي إلى النبوة نفسها وإلى الإيمان الكامل، فيقول إنها ليست شيئاً بغير المحبة! ولو وُهبَت لي النبوة، وكنتُ عالماً بجميع الأسرار، عارفاً كل شيء، ولي الإيمان الكامل أنقل به الجبال، ولم تكن لي المحبة، فما أنا بشيء! .

فإذا سألت الرسول بولس: ما هذه المحبة التي عنها تتكلم وفيها تُطنب؟ فلا يجد الرسول تعريفاً لِما هو بديهي بسيط، فيعرِّف المحبة بنفسها! فحسبك أن تقول للبصير النور حتى يدرك ما تعني، لأن لديه خِبرةٍ مباشِرةً بالنور! أما مَن تقول له النور فيسألك ما هو؟ فلا حاجة بك إلى أكثر من هذا الجواب لتعرف أنه كفيف، فتلجأ إلى الشرح، لعله يفهم شيئاً مما تعني. وهذا ما لجأ إليه الرسول بولس في شرح رائع: الْمَحَبَّةُ تَتَأَنَّى وَتَرْفُقُ، الْمَحَبَّةُ لَا تَحْسِدُ. اَلْمَحَبَّةُ لَا تَتَفَاخَرُ، وَلَا تَنْتَفِخُ، وَلَا تُقَبِّحُ، وَلَا تَطْلُبُ مَا لِنَفْسِهَا، وَلَا تَحْتَدُّ، وَلَا تَظُنُّ السُّؤَ، وَلَا تَفْرَحُ بِالْإِثْمِ بَلْ تَفْرَحُ بِالْحَقِّ. وَتَحْتَمِلُ كُلَّ شَيْءٍ، وَتُصَدِّقُ كُلَّ شَيْءٍ، وَتَرْجُو كُلَّ شَيْءٍ، وَتَصْبِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ. اَلْمَحَبَّةُ لَا تَسْقُطُ أَبَداً" (1كورنثوس 13: 1-8).

هذه تعريفات بالصفات لا بالذات، وبالعرض لا بالجوهر. وإذ يكلم الرسول بولس مؤمنين استناروا بروح الله، لا يتردد في أن يقول لهم: الإيمان والرجاء والمحبة هي الثلاثة الباقية (وما عداها زائل). وبحسم قاطع يردف بقوله: وأعظمها المحبة! فاطلبوا المحبة وتشوَّقوا بعد ذلك إلى المواهب الروحية. وهو موقف يستأهل أن نتريَّث عنده. ذلك أن الذين لم يوهبوا نعمة المحبة، أي الذين لم تصبح المحبةُ طبيعتَهم الجديدة في المسيح، أشبه بمن ليست لهم أذن موسيقية . قد يرون أن تعلُّم الموسيقى مما يجدر بهم، فيقضون ليلهم ونهارهم في التدريب على العزف. ولكن مهما فعلوا لن يكون ما يخرج منهم فن، لأن الفن عطيةٌ إلهية وسليقةٌ طبيعية وحسٌ صادق.

إن أقصى ما يقدر عليه هؤلاء هو الاجتهاد، ولكنهم في ضلال إن حسبوا ذلك أن يُوصّلهم إلى شيء بغير الموهبة الأصلية. وقصاراه أن يخلق قيمة مزيَّفة وبِرّاً مصنوعاً، له من البر مجرد مظهره وحَرْفه، ولكن ليس له جوهره وروحه! مثل هؤلاء يدورون في فلك الحرف . والحرف يُميت، ولكن الروح يُحيي كما يعلّمنا الكتاب (2 كورنثوس 3: 6). ومن قصاراهم أن يدوروا في فلك الحرف أي ظاهر أعمال البر التي توصف لهم، فيجتهدون في تنفيذ الشريعة، أي شريعة تحدد لهم أفعالاً محمودة يطيعونها لأنها أوامر وزواجر. ولذا نجد بولس الرسول لا يتردد في تلويم الشريعة التي هي أمر وزجر ليس غير، فيقول إنها: خدمة الموت المنقوشة حروفها في حجارة (2 كورنثوس 3: 7) والناس بهذه العقلية المظهرية، وبأفعالٍ تصدر عن خوف لا عن محبة قد يفهمون تعاليم البر فهماً حرفياً سطحياً، فالسيد المسيح يقول لغنيٍّ يريد أن ينجو بنفسه: إذا أردتَ أن تكون كاملاً فاذهب بِعْ ما تملكه وتصدَّق بثمنه على الفقراء، فيكون لك كنزٌ في السماء، وتعال اتبعني . فاستصعبَ الشاب النصيحة، فقال المسيح له: الحق أقول لكم: يعسُر على المتّكل على الغِنَى أن يدخل ملكوت السموات. وأقول لكم: لئن يدخل الجمل في سم الخياط أيسر من أن يدخل الغني ملكوت السموات (مرقس 10: 17-27).

فما تراهم يفعلون بفهمهم الحرفي؟ قصاراهم أن يقسموا أموالهم بين الفقراء، يظنون أن ذلك العمل بِحدّ ذاته بِرٌّ ولكن بولس الرسول يصيح لهم محذّراً مخيّباً آمالهم: وَإِنْ أَطْعَمْتُ كُلَّ أَمْوَالِي، وَإِنْ سَلَّمْتُ جَسَدِي حَتَّى أَحْتَرِقَ، وَل كِنْ لَيْسَ لِي مَحَبَّةٌ، فَلَا أَنْتَفِعُ شَيْئاً (1كورنثوس 13: 3).

أيعني ذلك أن الفعل بذاته ليس شيئاً؟ بلى!

لا قيمة للثمرة إلا أن تكون طبيعية، أي نتيجة نمو طبيعي من بذرةٍ في جوف الثرى أنبتت ساقاً وأوراقاً وزهراً فثمراً. الباعث هو الأساس، ولا بناء بغير أساس. إن الثمر الصالح هو الذي تؤتيه شجرةٌ حية، من شأنها أن تثمر مثل ذلك الثمر باضطراد.

إن العمل الصادر عن النفس، قيمته أنه تعبير عن مدلولٍ باطن وفطرةٍ نبيلة، وليست قيمته في ذاته. وبذلك ترتدُّ القيمة إلى موضعها الصحيح. إنها للإنسان، لا للفعل الجامد المقطوع عن بواعثه.

فما أكبر الفرق بين فعلٍ لا يصدر عن باعثٍ حي وشعورٍ جيّاش، وبين فعلٍ تدعو إليه النفس وتجد تحقيقها وراحتها فيه. وكل قيمة للفعل بغير الباعث السماوي هي ظاهرةٌ صوتيّة وعلى ذلك تكون هباءً وغباراً. وإن تكن مقصودة فهي نفاقٌ ورياء! هذا ما يقدمه ويعلّمه الكتاب .

ويدخل في عِداد البِرّ المزيَّف أو الخير الميّت غير النابع مِن تطّوُع النفس المُحِبَّة، ذلك النمط مِن الفضيلة الذي يستحق اسم الفضيلة المأجورة طمعاً في ثواب أو رهبةً مِن عقاب. وحيث يكون الفعل غير خالص لوجه الخير لا يكون الفاعل إلا عبداً يسلك سلوك العبيد، يغريه الطمع، ويردّه الفزع. يحيا في خوف من النقمة أو من فوات النعمة. لهذا يقول الكتاب في معرض الحديث عن الشريعة إنها خدمة الموت المنقوشة حروفها على حجارة . أما عن النعمة فيقول: لا خوفَ في المحبة، بل المحبة الكاملة تنفي الخوف، لأن الخوف يعني العقاب، ومن يخَفْ لم يكن كاملاً في المحبة (1يوحنا 4: 18)

ولا عجب! فالخوف من صفات العبيد وأما المحبة فمن صفات الأبناء.

إن تعليم الكتاب عن الحب والمحبة ليس سهلاً ولا قريب المنال لمن أراده، بل هو في جملته ثمرة جهدٍ وعرقٍ، ورياضةٌ روحية، تبدأ كما قلتُ بذرةً في جوف الأرض، ثم تنمو شيئاً فشيئاً حتى تظهر الثمرة الطيبة. وعندما طالعت الكتاب مؤمناً به، ثقُل عليَّ هذا التعليم السامق، وأحسست بثقله عندما أردت أن أواجه به الحياة، فكيف أحب من عاداني، وأصلّي من أجل الذي يبغضني، وأبذل صفحاً مسامحاً لمن يضطهدني؟ إنها آداب أكبر من طاقاتي ونفسي، وما رُبِّيتُ عليه. الحق أقول إني واجهت مأزقاً صعباً وعر الطريق.

وكانت مفارقة غريبة إذ أني - وبعد أن قبلت المسيح مخلِّصاً لحياتي - كنت أتحدث مع بعض الأساتذة الأفاضل الذين تولّوا تربيتي الدينية السابقة، وكنت أتحدَّث إليهم وأنا أُكِنّ لهم حقداً وكراهية لا حدَّ لهما، لأني كنت أحسُّ بداخلي أنهم هم المضلِّلون الذين كادوا يُلْقون بي في حلبة الجحيم ويحجبون عني نور السماء. حاولتُ أن أهدم قاعدتهم، وأحطم بنيانهم، وأدمّر أساساتهم، وأنا أوهم نفسي أني بذلك أُرشدهم إلى الحق الذي أُبلِغْتُه. لكني في واقع الأمر كنت أنتقم لنفسي وآخذ منهم قصاصي. وفي ليلةِ تحّوُلٍ روحيٍّ حقيقي في حياتي عُدت إلى منزلي بعد مناقشةٍ مع أحد أئمتي السابقين، طالت ساعات، أخذت الكتاب وبدأت أقرأ. وإذا بالرب يكلّمني على لسان بولس الرسول تارة، ويوحنا الحبيب تارةً أخرى، وأنا أقلّب صفحات الكتاب، فلا أجد سوى توجيه التوبيخ واللوم والإدانة لموقفي هذا. كانت كل كلمة من الكتاب تقول لي: لا! ليست هذه هي المسيحية. أنت مخطئ. أنت بحاجة إلى "السلوك في جِدَّة الحياة" (رومية 6: 4). وتعجبت! ألم أتجدَّد بعد؟ لقد آمنتُ بأُلوهيّة المسيح وبنوّته لله وصلبه وقيامته، كما أني أتوقّع بشوقٍ مجيئه ثانيةً. وأنا أمارس الفضائل المسيحية بقدر ما أعرف. وهل المسيحية أو غيرها إلا كذلك: إيمان وعمل؟ وهنا أجابني المسيح: نعم لقد تجددتَ يوم فتحتَ لي قلبك فصرتَ خليقةً جديدة. لكنك تحتاج أن تتجدّد كل يوم لتكون على صورة محبتي لك. وأنت تحتاج أن تعبِّر عن محبتي للجميع، كما أحبك أنا . ثم علَّمني مرة أخرى بلسان الرسول بولس في أصحاح المحبة: "وَإِنْ كَانَ لِي كُلُّ الْإِيمَانِ حَتَّى أَنْقُلَ الْجِبَالَ، وَلكِنْ لَيْسَ لِي مَحَبَّةٌ، فَلَسْتُ شَيْئاً، وَإِنْأَطْعَمْتُ كُلَّ أَمْوَالِي، وَإِنْ سَلَّمْتُ جَسَدِي حَتَّى أَحْتَرِقَ، وَلكِنْ لَيْسَ لِي مَحَبَّةٌ، فَلَا أَنْتَفِعُ شَيْئاً" (1كورنثوس 13: 2، 3).

وعندما انتهيت من القراءة أحسسْتُ بالحاجة إلى تلك الحياة التي رسمها سيدي في كتابه. لكني شعرتُ بالثّقل والبُعد. واتجهتُ إليه في صلاة. طلبت العون والغوث طلبت منه أن يعينني ويساعدني لأصل إلى حياة الكمال التي وصفها في كتابه. لقد سلَّمت لسيدي في تلك الليلة عرش حياتي يتصرف فيَّ كيف يشاء. أعطيته السلطان فإذ بي أجد أن الحياة المسيحية التي أراها مستحيلة صعبة لا يحياها إلا الآلهة، أو أبناء الآلهة، يحياها المسيح فيَّ ومِن خلالي. ومِن هنا علمتُ أن المسألة لا تتوقف على ما أفعله أنا، بل على ما يفعله سيدي، لأنه يعطي القوة، ونحن الآلات التي تنطلق فيها تلك القوة، وهنا تحقق معي اختبار الرسول بولس: مَعَ ا لْمَسِيحِ صُلِبْتُ، فَأَحْيَا لَا أَنَا بَلِ الْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ. فَمَا أَحْيَاهُ الْآنَ فِي الْجَسَدِ فَإِنَّمَا أَحْيَاهُ فِي الْإِيمَانِ، إِيمَانِ ابْنِ اللّهِ، الَّذِي أَحَبَّنِي وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لِأَجْلِي" (غلاطية 2: 20).

تعلمت أن تجديد الحياة لا يعني إدخال بعض الأعمال الصالحة أو النيَّات الحسنة وسط جملةٍ من العادات والأخلاق السيئة، فهذا الخلط لا ينشئ به المرء مستقبلاً حميداً ولا مسلكاً مجيداً، ولا يدل على كمالٍ أو قبول، فإن القلوب المتحجِّرة قد تَرْشح بالخير، والأصابع البخيلة قد تتحرك بالعطاء ولا يُسمَّى ذلك اهتداءً. إنما الاهتداء هو حياةٌ تجدَّدت بعد بلى، ونقلةٌ حاسمة غيّرت معالم النفس كما تتغيَّر الأرض الموات المقفرة وقد هطلت عليها أمطارُ السماء.

 

 

الذي يُولد من الله يغلب العالم

أبتاهُ، لا تغضبْ إذا

ما قلتُ شيئاً مِن عتاب

عندي عتابٌ يا أبي، عندي عتاب

أبتاهُ، قد علّمتَني حبَّ التراب

كيف الحياة أعيشها رغم الصعاب؟

كيف الشباب يشدّني نحو السحاب؟

حاسبتُ نفسي عمرها

حتى يئستُ من الحساب!

وضميريَ المسكينُ مات من العذاب

أبتاه، مازال في قلبي عتاب

لِمَ لمْ تعلِّمني الحياة مع الذئاب؟!!

عندما يولد إنسان في عصر يجد حياة الذئاب فيه فريضة وضرورة، في عصرٍ ضاق صدره بكل طاهر عفيف، وارتدَّ أهله إلى عصر الرقيق، فإذا بهم يعرضون أبناءهم في سوق النخاسة، لا طمعاً في حياة القصور، وإنما ابتغاء حياة الكفاف!

عندما يأتي إنسان في مثل هذا العصر، وعلى مثل تلك الأرض، ما أظنه ينشغل كثيراً إن كان الكتاب الذي بين يديه جديراً بالتقديس أم التدنيس، وأن دينه الذي يدين به صالحاً ينتمي إليه أم ظالماً ينقلب عليه! إنما حَسْبه من دنياه عملٌ يلتهم قُواه ليُدِرّ عليه رِزقاً يفترس عقله انشغالاً في جمعه وطرحه وقسمته! إن هموم أهل القاع كثيرة، ولكثرتها فإنها جديرة بأن تجعل البحث في المسائل الدينية ترفٌ لا يحصل عليه إلا المترَفون، أو فاقدو الأمل في حياة مُترفة!

إن هذه الهموم هي الباب الضيق الذي قصده سيدي المسيح عندما قال في موعظته على الجبل: اُدْخُلُوا مِنَ الْبَابِ الضَّيِّقِ، لِأَنَّهُ وَاسِعٌ الْبَابُ وَرَحْبٌ الطَّرِيقُ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى الْهَلَاكِ، وَكَثِيرُونَ هُمُ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ مِنْهُ! مَا أَضْيَقَ الْبَابَ وَأَكْرَبَ الطَّرِيقَ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى الْحَيَاةِ، وَقَلِيلُونَ هُمُ الَّذِينَ يَجِدُونَهُ! (متى 7: 13 و14).

إن الجريمة الكبرى التي تُرتكب في حق الإنسانية أن يضطر الإنسان للدخول في صراعٍ يومي من أجل الحصول على ضروريات الحياة، حتى يستوعب هذا الصراع عمره، فإذا به طاحونة هواء أو كمَن حرث المياه!

لقد حيَّرني هذا الاستفهام حتى أجابني الكتاب المقدس أن الذي يُولد من الله يغلب العالم (يوحنا 5: 1-5)! لقد اقتربتُ من الله ذراعاً فإذا به يقترب مني باعاً. بحثت عنه، فاجتباني. منحته جزءاً من عمري فمنحني خلاصاً أبدياً. علَّمني الكتاب أن كُلُّ مَنْ هُوَ مِنَ ا لْحَقِّ يَسْمَعُ صَوْتِي ; (يوحنا 18: 37). إني أستطيع أن أقول إن ثمرة أكثر من أربع سنوات من البحث والدراسة كانت سكينةً للنفس، واطمئناناً نابعاً من ذلك الحق الذي بحثتُ عنه ووجدته بين ثنايا الكتاب فآمنت به.

ولربما يستعظم البعض هذه النقلة، وربما يستصعبها آخرون، ويؤكد مشاكلها الكثيرون. فكيف يتحوَّل المسيح عيسى بن مريم بالنسبة لي إلى يسوع الإله المتجسّد؟! وكيف يصبح رسولُ الله وكلمته عندي ابنَ الله الحي؟!

نبيُّ بني إسرائيل، كيف يصبح فادي الأّولين والآخِرين؟! بَيْد أن العلم بحقيقة مسيح القرآن يجعل من التصوُّرات السابقة استفهاماتٍ لا محل لها، وإشكالات لا معنى لها. فإن الإيمان بالمسيح كما قدمه القرآن، هو المقدمة المنطقية للإيمان بالمسيح كما صّوره الإنجيل.

ولقد قدمت في الباب الأول من كتابي الدوافع القرآنية للإيمان الإنجيلي وكيف قادني القرآن إلى الإيمان بمعتقدات الكتاب المقدس. وفي الصفحات القادمة أقف أمام نصوص الكتاب متعبّداً بدراستها، مقدّماً بعض ما تعلّمته منه.

ولا أقصد دراسة أكاديمية، ولا أهدف لبحثٍ لاهوتي يقف عند النصّ يتأمله ويستخرج منه الكوامن من المعاني القريبة والبعيدة، ولكني أردت دراسةً من الداخل تتحدث وتتكلم لأنها تتجاوز الخارج إلى المعاناة الحية.

إن غاية الأمر في دراسة النصوص لذاتها هي أن تحّولها متحفاً للعلم أو معرضاً للفن، مهما يكن من أمره فهو مزارٌ يؤمّه طالب معرفة، أو ناشد طرافة.

أما مَن يحياها فهي كيانه في مَصْبحه ومَمْساه. وشتّان الفرق بين الكيان والمزار!

فمن أجل الإنسان الحي - هنا والآن - نعيش هذه التعاليم. وفي جانبٍ من الفن، وجانبٍ مِن الفكر، وجانبٍ مِن الوجدان، يكتمل باجتماعها ذلك الكيان النابض الذي ننشده. وإنه لكيان يموج بالصراع والحوار: صراع الفكرة المُعَاشة، لا حوار الذهن البارد والحروف الصمّاء.

بهذا سنأخذ أنفسنا. وعند قسطاسه يكون حسابنا.

 

 

الصفحة الرئيسية

جميع الحقوق محفوظة

عاودوا الزيارة بعد فترة وسوف تجدون مواضيع هامة جداَ