دوافع للإيماني الإنجيلي
صراع أدّى إلى الاهتداء
أمير ريشاوي
أحد قادة الأحزاب الإسلامية المعاصرة
الفصل السادس عشر: الخلاص
في كتابه "دع القلق وابدأ الحياة يقول ديل كارنيجي": "لا تأتينا قرحة المعدة مما نأكله، بل مما يأكلنا قاصداً القلق! ولا شك أنه قد أصاب لبّ الحقيقة من قال: "من أصابه القلق فقَدَ مِتَع الحياة، وإن جاءته تسعى".
لكن ما عساه يفعل من كان القلق في حياته أمراً يفرضه معتقده الديني!
إن الذين خوطبوا بلعلّ أو بعسى أن يغفر الله لكم ويكفر عنكم خطاياكم، هم قومٌ بلا شك ألقاهم معتقدهم في القلق والهم والحيرة، فهم يُصبِحون ويُمْسون وهم لا يدرون في أي الفريقين سيكونون. هل هم من الناجين الذين غُفر لهم، أم من الهالكين الذين رُفضت توبتهم!!
تعيس ذلك الإنسان الذي خلد إلى فراشه وهو غير ضامن لمستقبل حياته الأبدية. تعيس من قام من بين يدي الله ولم ينل خلاصه. وطوبى لمن اطمأنت نفسه، وسكنت روحه بتأكيدِ الله بنجاته!
إن ألمع جوانب المسيحية على الإطلاق هو تأكُّد معتنقيها مِن خلاصهم، بفضل دم مخلِّصنا الذي غطى خطايانا وغفر ذنوبنا. ففي ظل هذه العقيدة المخلِّصة نجد أن الله قد انحنى على البشر عندما أخذ تراباً وخلق الإنسان، ثم انحنى عليهم ثانية عندما كلّمهم بواسطة أنبيائه. وأخيراً لما بلغ ملء الزمان انحنى عليهم في شخص ابنه يسوع المسيح، الذي جاء مخلِّصاً للإنسان في شخصه وحياته وموته وقيامته.
نسمع أحياناً بعض الوعاظ في حديثهم عن الفداء والخلاص فإذا هم يحصرونهما في موت المسيح. غير أن هذه نظرةٌ ضيّقة للغاية، فبظهور المسيح ابن الله في الجسد أمكن خَلْق الإنسان الجديد الذي لا نقص فيه ولا اعوجاج ولا ذنب ولا خطية، فبتجسُّد الكلمة حصلت الطبيعة البشرية على الخلاص، واتَّحدت بشخص ابن الله القدوس فتجدَّدت "وتألَّهت" (2 بطرس 1: 4).
في شخص يسوع المسيح وُجدت طبيعة بشرية خالصة كاملة، فخلاص الإنسان هو قبل كل شيء خلاص كيان. وهذا الخلاص يتمّ باتحاده في كيان المسيح، فيصبح إنساناً جديداً (2 كورنثوس 5: 17) متَّحداً بالله اتّحاداً جوهرياً. فكما أننا انفصلنا عن الله عن طريق آدم، فقد اتصلنا بالله عن طريق يسوع المسيح.
وقد تمَّ الخلاص للبشرية لا من خلال تجسّد الكلمة فقط، بل من خلال أعمال الرب يسوع يروي لنا لوقا أن يسوع دخل المجمع يوم سبت وقام ليقرأ، فدُفع إليه سفر إشعياء النبي فلما نشر السفر وقع على الموضع المكتوب فيه: روح الرب عليَّ، لأنه مسحني لأبشّر المساكين، وأرسلني لأنادي للمأسورين بالتخلية، وللعميان بالبصر، وأُطلق المرْهَقين أحراراً، وأُعلن سنة نعمةٍ للرب . ثم طوى السفر ودفعه إلى الخادم وجلس. وكانت عيون الذين في المجمع شاخصةً إليه بأجمعها، فشرع يقول لهم: اليوم تمَّت هذه الكتابة التي تُليت على مسامعكم (لوقا 4: 16-21)
وكانوا جميعاً يشهدون له، ويعجبون بكلام النعمة الخارج من فمه .
كان اليهود يحتفلون كل خمسين سنةٍ بسنةِ يوبيل يُريحون في أثنائها الأرض، ويطلقون الأسرى، ويحررون العبيد. وكانت تلك السنة، سنة نعمةٍ للرب. وبمجيء المسيح أصبحت سنة النعمة هذه لا مرة كل خمسين سنة، بل سنةً دائمة، لأن المسيح هو نعمة الله التي انسكبت على جميع البشر ولا سيما على الفقراء والمرهقين والخطاة. إن الإنسان يعيش في القلق والعبودية والخوف عندما تسيطر عليه مخاطر من ذاته ومن شهواته وأمياله، فيسقط في الخطيّة ويصبح عبداً لها، وبالتالي يصبح في حاجة إلى من يخلّصه من خطيته، وينقذه من مخاطر المجتمع الذي يرذله ويحتقره ويستعبده، فيمسي في حاجةٍ إلى من ينقذه من قيود المجتمع، ومن مخاطر الطبيعة والكون كالأمراض والمصائب والموت.
ولقد جاء المسيح مخلِّصاً للإنسان ينقذه ويحرره من سطوة تلك المخاطر جميعاً. جاء يغفر الخطايا ويُظهر للخطاة أن محبة الله أعظم من خطاياهم. وجاء يُظهر بأقواله وأعماله أن الخطاة والغرباء والفقراء هم أقرب إلى قلب الله من الفريسيين والمتسلطين والأغنياء، ويؤكد أن محبة الله تشمل جميع الناس على السواء. وجاء يشفي المرضى، ويُنهِض المخلَّعين ويُقيم الموتى، مظهراً أن محبة الله أقوى من مخاطر المرض والموت.
المحبة وحدها هي التي تخلّص الإنسان في جميع أبعاده: في ذاته وفي علاقته بالآخرين وفي ارتباطه بالحياة والكون. وقد أظهر لنا يسوع في حياته وأعماله عمق تلك المحبة التي ليست محبة إنسانٍ لآخر، بل محبة الله نفسه التي تنسكب على جميع الناس، فتُحيي نفوسهم وتخلِّصهم من عبوديتهم (رومية 5:5).
وإذا كانت أعمال المسيح قد حقَّقت الخلاص للإنسان، فإن موته على الصليب هو قمَّة عمله الخلاصي.
كان الشعب اليهودي ينتظر مجيء مسيحٍ ملكٍ يُخلِّصه من عبوديته ويحرره من سيطرة الرومان، ويُعيد مملكة داود، مُنشِئاً مملكةً دنيوية كسائر الممالك مؤسَّسة على القوة والسيادة، لذلك رفض الاعتراف بأن يسوع هو المسيح المنتظر. ولقد حقق يسوع رغبة الأجيال السابقة ونبوات الأنبياء، وجاء ليخلِّص الإنسان ويحرر الشعب. لكنه رفض تحقيق ذلك باللجوء إلى طرقٍ ملّوَثةٍ بالذنوب، لأن الذنب لا يزيله ذنبٌ آخر. فالحقد لا يزيله الحقد، والإثم لا يمحوه الإثم، والقتل لا يبطله القتل. المحبة وحدها تستطيع أن تزيل الحقد، والمغفرة وحدها تستطيع أن تمحو الإثم، والموت في سبيل القاتل يستطيع وحده أن يبطل القتل.
لقد استطاع الحقد أن يعلّق المسيح على الصليب، لكنه وقف عاجزاً أمام المغفرة التي منحها يسوع لصالبيه يَا أَبَتَاهُ، اغْفِرْ لَهُمْ، لِأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ (لوقا 23: 34).
أوصى المسيح تلاميذه بأن تكون محبة الأعداء هي العلامة المميِّزة لهم، لأنها العلامة المميِّزة للآب السماوي أحبوا أعداءكم وصلّوا لأجل الذين يضطهدونكم لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السموات، فإنه يُطلِع شمسه على الأشرار والصالحين، ويَمْطُر على الأبرار والأثمة (متى 5: 43-48). تلك المحبة التي تقوم لا على إقامة الحواجز وتدمير الآخرين بحُجَّة أنهم أعداء أو فُسَّاق أو زنادقة أو مشركين كفرة، بل على رفع كل حاجزٍ يفصل الإنسان عن أخيه الإنسان، والإنسان عن خالقه الله، ولقد حققها المسيح في حياته عندما غفر للخطاة وحققها إلى أقصى حدّ في موته عندما غفر لقاتليه!
قرأت بعض التفسيرات لموت المخلِّص الفادي تظهره عملاً قام به المسيح ليسكّن غضب الله، أو فدية دفعها المسيح عن الإنسان لتحريره من عبودية الشيطان. لكني أعتقد أن غضب الله على الخطاة وعبودية الخطاة للشيطان هما صورتان أدبيتان هدفهما إظهار البُعد الحقيقي والتناقض العميق بين الخطيّة والله. وذبائح الحيوانات التي كان بنو إسرائيل يقدمونها لله كانت تعبّر عن إدراك الإنسان لهذا البُعد الذي تنشئه الخطية بينه وبين الله، وعن اقتناع الإنسان بأن الموت وحده يمكنه التكفير عن الخطية، لأن الخطية إهانة قصوى لله.
ولقد أتت المبادرة من الله نفسه، فالله هو الذي يبادر برحمته إلى تبرير من كان خاطئاً وإحياء من كان ميتاً. لا يقول العهد الجديد إن الإنسان هو الذي يتصالح مع الله، بل الله صالح في المسيح العالم مع نفسه (2 كورنثوس 5: 19). ويعبّر العهد الجديد عن هذه الفكرة بأمثال وتشابيه متنوعة: فالله هو الراعي الصالح الذي يمضي بنفسه في طلب الخروف الضال حتى يجده (لوقا 15: 1-10). والله هو الذي أَحَبَّ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ، لِكَيْ لَا يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الْأَبَدِيَّةُ (يوحنا 3: 16).
إن تقديم يسوع ذاته أنشأ عهداً جديداً. فالعهد القديم أنشأ بين الله وشعبه على يد موسى عهداً بواسطة دم الحيوانات وَأَخَذَ مُوسَى الدَّمَ وَرَشَّ عَلَى الشَّعْبِ وَقَالَ: "هُوَذَا دَمُ الْعَهْدِ الَّذِي قَطَعَهُ الرَّبُّ مَعَكُمْ عَلَى جَمِيعِ هذِهِ الْأَقْوَالِ" (خروج 24: 8).
أما يسوع فأنشأ عهداً جديداً مع المؤمنين به بدم نفسه.
وكان العهد القديم مبنياً على شريعة الله التي أُعطيت لموسى، أما العهد الجديد فمبنيٌّ على نعمة المسيح لِأَنَّ النَّامُوسَ بِمُوسَى أُعْطِيَ، أَمَّا النِّعْمَةُ وَالْحَقُّ فَبِيَسُوعَ الْمَسِيحِ صَارَا" (يوحنا 1: 17). فإن نعمة المسيح ومحبته جعلتاه يسكب دمه على أحبائه. وفي العهد القديم كان العهد مع موسى يضم شعب الله المكوَّن من الشعب اليهودي، نسل إبراهيم الجسدي. أما العهد الجديد فهو عهد الله بالمسيح مع شعب الله من كل قبيلة وشعب."كُلُّ الَّذِينَ قَبِلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ سُلْطَاناً أَنْ يَصِيرُوا أَوْلَادَ اللّهِ، أَيِ الْمُؤْمِنُونَ بِاسْمِهِ" (يوحنا 12:1).
وخلاصة القول، إن الكتاب بتعاليمه هذه يدخل بنا زمن العهد الجديد مانحاً إيّانا هذا الخلاص الأكيد المضمون، الذي بغيره يحيا الإنسان في قلق ينتهي بالهلاك.
عاودوا الزيارة بعد فترة وسوف تجدون مواضيع هامة جداَ